بُنى السرد ووقائع التشظي في "أنوات" الشاطبي (*)( 1-2 ) يظل المبدع - أي مبدع – مطالباً – دائماً – بالخلق، وتجاوز المألوفات، والتمرد على القوالب الجاهزة، لتهيئة موطئ قدم لنفسه بين الأتراب، والأنداد بالسعي، وراء الكلمة ، لاكتشاف دورها الرؤيوي الذي يجاوز به النشاط العادي للقراءة، إلى سياقات توظيفية، وحيوية، تنهض بالخطاب الأدبي إلى مستويات الوعي باستدرار اللغة، وتخليصها من الرتابة والمواضعات الباردة التي تجعل من النص استنفارياً، لأول قراءة عابرة، أو تجعله ذا أبنية سائبة لا تؤدي وظيفة إبداعية خالقة؛ بما يهبط بالنص أحياناً إلى مستويات من المراهقة الفكرية، أو الانزياح وراء الفكرة "النزوة" والإيحاء الفج. ونحسب بأن على الكاتب الذي يبحث عن التبصر الإبداعي في نتاجاته ألاَّ يخجل، أو يتساخط من متلقِ جاد، ومحب يقول له: لم تكن بعدُ. • ونحسبُ بأن قاصاً نحو " سامي الشاطبي" قد تفوق على نفسه وهو يقول-وبعد أكثر من سبع سنوات على أول إصدار- "لم أحقق شيئاً بعد " لم أكتب شيئاً بعد. لا أدري ما الذي كنت أكتبه. وهذا منتهى التواضع، والأدب من مبدع يرغبُ جاداً في الوصول إلى القارية الفكرية، بالانفتاح على أسئلة الوجود الكبرى بواسطة اللغة(1). • وبإيمائنا إلى هذا المستوى الكتابي لدى "الشاطبي" إنما رغبنا في تحديد الصوت الغالب الذي سيطر على ما نسبته (95%) من المجموعة القصصية الأولى " الأنوات"، ، ولذي كان "الجنس" أحد مرادفاته. على أننا نستطيع أن نؤكد بأن هذه القصص القصيرة-بالرغم مما شابها من طموح متعجل- مثلت بصدق نفسية الكاتب وذاته المتمردة بالتيه. حتى تلك القصص الاستعرائية التي بدت متحللِّة من الوظيفة الإبداعية، بدت أشبه بـ( المعادل الموضوعي) للذات الشتاتية، الخروجية، المتولدة من واقع " لقيط". أما تلك التي بدت خاوية من موضوعة "الجنوسة"، فلا نعدم فيها بعض الإشارات الجزئية، كما في قصة " عاصفة جنوبية"، وقصة " موت القاضي" .. ففي الأولى نجد : " أغرق يديه في مساماتها".. فإغراق اليد في المسامات توحي للقارئ بفضاءات حرّة من التخيل الجنسي، وفي الأخرى نجد ذات الهاجس في ملفوظية "الثدي" – تنتزع ثديها الأيمن.."، وإن كان الإيحاء – هنا – لا يؤدي عمقاً تخييلياً بسبب من دلالة الانتزاع، التي تحمل استبطاناً بالنفور.. • وبالرغم من كون هذه الإشارات الجنسية حشوية – هنا – لعدم حاجة الموضوع إليها إلا أن ثمة نزوعاً قسرياً يطوّع هذه الرغبة - في قصص أخرى - لتكون تساوقية في الذهن، بدليل أنها تُفرض على المستوى الحكائي للجوامد، والحيوان. مثال ذلك صور المشهد الأول، والثاني، والثالث، في مجموعة " أوهام العسل". ويكفينا أن نورد – فقط – هذا المقطع الذي يدور الحوار فيه بين الكاتب مع قلمه، والورقة: - " قلت ابتعد..لا تقذف بداخلي حبرك، رأس قلمك يؤلمني. - اصبري.. بقي القليل.. لحظة وارتفع صوتها: لا..لا..لا.. وغاصت الورقة في صراخها، وغاص هو في لذته.." من العادة أن يعقد القاص – أحياناً – حواراً مع قلمه ؛ ليعبِّر عن فكرة الكتابة الهاربة؛ لكن القاص – هنا – لجأ إلى الورقة لعامل التأنيث، بينما جعل من القلم رمزاً لذكوريته، وبذلك يصرف القارئ من الموضوع الفكري إلى الموضوع الحسي ذي الصلة الغريزية بموضوعة "الجنس" وحده. ويأتي المشهد الأول، والثاني مؤكداً لهذه الخروجية بإدارة صراع بين حيوانين ذكر، وأنثى حيث تعطينا الخاتمة صورة سينمائية وقحة. وهو ما يجعلنا ندرج نحو هذه الكتابات تحت إطاريات مرحلية اتسمت بمراهقة الفكرة النصية. ولن نتحدث عن النصوص التي كان الجنس موضوعها الرئيسي، حتى لا يقع الكاتب مغشياً عليه أمام القراء. • يحاول القاص " سامي الشاطبي" أن يخرج أحياناً من مراهقة الفكرة النزوة، إلى القارية الفكرية، بتوظيفه للبنية الوقائعية خارج دينامية الذات الانغلاقية، والجنوسية المحضة، وشاهدنا على ذلك ثلاثة نصوص هي: عاصفة جنوبية، وموت القاضي، واللقيطة(2). ففي نص " موت القاضي"(3) يحاول أن يوظف بعض البُنى الأسلوبية بانياً بها دعامات الحدث الدرامي الذي يفسِّر قصة الرؤيا المنامية من خلال شخصية مركزية هي " زوجة القاضي" مستخدماً في ذلك النظام المقاطعي بالفصل، والوصل؛ متخلصاً – بهذا النظام – من الحشويات السردية، والتفاصيل الزائدة، إذْ يشعر القارئ، وهو ينتقل إلى المقطع الثاني – مثلاً – بأنَّ ثمة انقطاعاً، أو هُوَّة ( ما) تفصل السَّابق باللاحق من السرد: " تساقطت أسنانها في نهاية المنام فجاء حاجب المحكمة بقرار نقل زوجها القاضي إلى بلاد الساحل...." "شخص غريب الملامح، تظهر بقع احتراق خضراء في وجهه، ينسل من تحت الباب.. يدعوها لتزيين نفسها.. يعطيها السكين، فتشرِّح وجهها نصفين.. تشق رداءها تنتزع ثديها الأيمن....". وما يزيد في فضول القارئ هو هذه الغرابة في المقطع الثاني، إذ ينتقل إلى نصية "عدمية" من خلال: الرجل الذي ينسل من تحت الباب. شق الرداء. نزع الثدي. شرخ الوجه. مما يوقع القارئ أمام إبهام وغموض كبيرين. وهذه هي المراوغة الفنية التي يجسدها القاص، حيث يأتي المقطع الأخير – الثالث – ليزيل الغرابة، والغموض، ويكشف عن براعة ضللت القارئ ابتداء ،ًإلى حد يجعلنا نعيد رؤيتنا للنص مجدداً. ففي حين استطاع القاص استدراجنا بدءاً إلى تأويل الحلم، بأنه لم يكن سوى نقل الزوج من عمله نفاجأ بأن هذا التأويل مخادع للقارئ، وأنَّ المقطع الأخير تضمَّن حلاً لإشكالية المقطع الأول، و الثاني – معاً – هكذا: " على بعد خطوات من الساحل انقلبت (بقوّة) سيارة، وقد بدا من الداخل وجه سائقها أحمر من بقع الدم وبجانبه امرأة مشطورة إلى نصفين، وطفل يتنفس احتضاراً .... ( موت القاضي). يستطيع القارئ الآن أن يتخلَّص من غرابة المقطع الثاني، وهو يدرك بأنه لم يكن سوى تفاصيل الحلم، كما يستطيع أن يصوِّب تفسيره الأول عن الحلم، إذ ليس هو "النقل" وإنما " الموت" ولولا أن القاص قد أخفق في العنوان؛ وهو يجعله كاشفاً للداخل، لكنا إزاء قصة متكاملة الجمال. • وقريباً من هذا النص تأتي قصة "اللقيطة" التي تتميّز ببنائية أسلوب التداخل، والتعالق باللجوء إلى الانشطارات السردية المقطعية البالغة ثلاث عشرة وحدة نصية، استعمل فيها الكاتب مراوغة التأويل التي قد تصل إلى مناطق من النفور القرائي، لا سيما وأن بعض النصيات تأتي اقتحامية؛ لاحتلال السارد بعض وقائعها، كأن يجعل من نفسه شخصية – محورية – باسمه الحقيقي، كما في مقطع (99) ( يونيو)، كالآتي: "سامي الشاطبي: وما الذي يحشره في هذه المعضلة، لتبحث عن سلالتها عند المؤرخين". أو يحشر بعض سيرته الذاتية بسيرة شخصية " اللقطية" – موضوع النص – كما في المقطع (99) ليلاً، كالآتي: " سامي الشاطبي قاص يمني مغترب في اليمن لحين إثبات هويته... "( 99يونيو) وإذا كان ثمة نفور قد يسيطر على القارئ، جراء هذه التداخلات، والتباعدات، إلا أن ذلك يؤدي آخراً إلى الامتزاج والتداعي. فالكاتب بذلك إنما يحاول أن يجد معادلات موضوعية لأناته، وقد كانت " اللقيطة" هي أهم تلك المعادلات التي ليست سوى " سامي الشاطبي – نفسه ،حين استنطاقها تأويلياً. فالفتاة التي تتعدَّد أنسابها فلا تعرف إلى أيّ الأوطان انتماؤها، تتداخل سيرتها بسيرة الكاتب فتحل به ، ويحل بها، ويتمازجا معاً في العالم الموضوعي الخارجي: " تلك الملعونة أيقظت أجناسي النائمة. فأمي من بطن الشرق، وأمها من الغرب، وجدّتها من الساحل، وخالاتها من الكرب. أبي من خضرة سمراء وأمه من الساحل الآخر.. أنا خليط من عدّة أجناس ..." ( اللقيطة). وهذا منتهى التعالق ، والحلول بين " اللقيطة" والشاطبي" اللقيط". مع تحفظنا على ملفوظ "اللقيطة " بمفهومه اللغوي، فاللقيط هو من لا يُعرف له نسباً، ووجد لقيطاً، وليس هذا ما رمى إليه الكاتب – الذي يعني باللقيط الطفل الهجين الذي يأتي من أبوين مختلفي الجنس - وإنما عبَّر عن "الهجين" بـ(اللقيط)، من قبيل السخط اللغوي، حملاً على الشتات النفسي. • أما الجديد الأسلوبي لدى الشاطبي، فهو استخدام " الرمز"، وذلك في قصة واحدة هي "عاصفة جنوبية"؛ هذا النص الذي يؤلفه الكاتب من فكرتين، إحداهما ظاهرة، والأخرى باطنة. فأما الفكرة الظاهرة فيؤلفها هذا السياق. "بعد أن تقضي المرأة "أصنع "ثمانٍ وعشرين عاماً في غرفة الإنعاش، تتزوج من رجل ضعيف القدرة الجنسية، ولخوفها من العنوسة تتشبث به فتغريه بالمال الذي كانت تجمعه من خلال البغاء، وممارسة الرذيلة، بحيث تسيطر عليه، فيقعد في المنزل بينما تقوم بالصرف عليه، وبعد أربع سنوات من هذا الزواج تُصاب الزوجة بمرض الترهّل، والسمنة، فتذهب إلى طبيب عربي . ينصحها برحلة استجمام إلى البحر مع زوجها على أن تضع نفسها تحت تصرفه والبحر. المفارقة التي تحدث: أن الشحوم تنتقل إلى زوجها متخلصة هي منها. عند عودتهما تأتي أو تهب عاصفة جنوبية تقضي على كل شيء". (عاصفة جنوبية) إذا ما أُخذ الموضوع على الظاهري سنلاحظ بأن ثمة انقطاعاً بين قصة الزوجين، والعاصفة الجنوبية، ولا علاقة – البتة – من وجهة جمالية بين السابق، واللاحق، حيث تبدو موضوعة "ألعاصفة" حشوية، لا تنتظم في سياق نفسي، أو موضوعي ( ما). لكن الحال حتماً سوف يتبدل ونحن نأخذ بالإسقاط " الرمزي" كحل لفك الفكرة الظاهرة. وكيما نوجد ترابطاً بنوياً بين الكل، والجزء، يُحرِّك النص جمالياً، ننتزع هذه الوحدات النصية – ابتداءً. - أصنع / الغيبوبة/ ثمان وعشرون عاماً/ الزواج/ أربع سنوات/ تراكم الشحوم/ الطبيب العربي/ العاصفة. - الآن نقوم بتأويل هذه الوحدات على ضوء المدخلات الرؤيوية للرمز، والمراوغة اللغوية.. - "أصنع" هو الاسم المعكوس لـ( صنعاء)، وحالة الغيبوبة تفسير لحالة الشتات، والفقر والمرض منذ قيام الثورة 1962م. أما الـ(28) عاماً فهو عمر الثورة منذ قيامها وحتى عام 1990م – عام تحقيق الوحدة اليمنية - وفي الزواج إحالة إلى " الوحدة اليمنية" في العام 1990م وتحيلنا الأربع السنوات إلى السنوات الأولى من عمر الوحدة، ( قبيل الاحتراب). وبتراكم الشحوم إيماء إلى الإشكاليات السياسية التي بلغ قمتها بعد أربع سنوات من الوحدة، والطبيب العربي فيه إحالة إلى بعض الدول العربية التي حاولت أن تعقد مصالحة سياسية بين الطرفين. وفي "العاصفة" إيماء إلى "الحرب" الأهلية وقد جعلها الكاتب تأتي من اتجاه جنوبي - بما يشير إلى الطرف المتسبب - فتقضي على كل شيء. "حينما عادت" "أصنع" لمنزلها هبت عاصفة جنوبية أغرقت المدن وجعلت منزلها ساحلاً تطفو به آلاف الجثث من المتسولين، والطغاة، والظلمة، من بينهم تطفو جثة الدكتور حامد..".(العاصفة) والقصة – آخراً – تعبِّر عن وجهة نظر القاص في الحرب، وأطرافها السياسيين.. هذا كل ما استطاع الكاتب إنجازه من خلال ثلاثة نصوص – فقط – مثلت أجود ما قاله الناص على مستوى التبصّر الواعي للقص.. وهو أقل القليل بالنظر إلى المجموعة الكاملة التي تألفت من اثني عشر عنواناً رئيسياً، مثلَّت في أغلبها مرحلة لمراهقة الفكرة، والأنا المنغلقة على الواقع الخارجي المحاصر بالأنا. الهوامش: * صدرت أول مجموعة قصصية للكاتب عام 2000م ، عن نادي القصة اليمنية. (1) بعد عدد من الإصدارات السردية، رواية، وقصة، تجاوزت السبع، وبعد سبع سنوات على إصداره الأول ما زال القاص يكرر عن نفسه ذات المقول؛ ووصل إلى حدِّ أنه لا يرغب في إهداء ما ينشره إلى بعض النقاد، والأصدقاء، خوفاً، وتردداً مما قد يقال في مضمون تلك الكتابات، وهو ما يجعل من منشوراته السردية نادرة الحصول عليها، الأمر الذي يطرح أكثر من تساؤل حول ما يكتبه الشاطبي، ولمن يكتب إذا؟ (2) لا نستطيع أن ندرج هذه "الثلاث" تحت مفهوم "مراهقة الفكرة" لتعاليها على هذا المفهوم، والجنوسة وإن تجسد هاجسها في نحو هذه النصوص، إلا أنها لم تكن موضوعة رئيسية. |