الليبرالية العربية غيمة لا تمطر أفتى عالم الدين السعودي صالح الفوزان برفض الليبرالية وتكفير كل من يعتنقها مفترضا أنها تناهض سلطة الشريعة. أثارت الفتوى ردود فعل غاضبة من طرف الذين ينسبون أنفسهم إلى التيار الليبرالي معتبرين أنها بمثابة دعوة لتصفيتهم ما حمل الفوزان على تصحيح ما قاله في الشكل دون أن يتخلى عن المضمون. والواضح أن هذه الفتوى ليست فريدة من نوعها، فقد صدرت قبل عقود اجتهادات دينية ترفض الاعتراف ب “كروية الأرض” كونها من أثر فلسفة أجنبية وبالتالي خلاصة “زندقة” مرفوضة. وصدرت آراء دينية في بلدان عديدة ضد نظريات فلسفية واختراعات علمية واكتشافات مرفقة بنصائح لا تجيز استخدامها، إلا أن ضغوط الوقائع القاهرة أدت إلى تجاوز مثل هذه الآراء والفتاوى والاجتهادات. واليوم لا يرفض عاقل في العالم الإسلامي الاعتراف بكروية الأرض بل ربما نجد المجسم الكروي في مكاتب ورثة الذين أفتوا بكونها “مسطحة” فهل يمكن الرهان على الوقائع القاهرة نفسها لتصبح نظريات عصر “النهضة الأوروبية” ومن بينها الليبرالية مجالا قابلا للبحث والتداول والتبني في بعض مجتمعاتنا المحافظة؟ ما من شك أن الليبرالية ليست حاجة علمية كما هي الحاجة للتعاطي مع “كروية الارض” أو الهاتف النقال أو الانترنت أو وسائل النقل الحديثة وغيرها وبالتالي يمكن الاستغناء عنها أو تفاديها بل ربما يتوجب ذلك عندما يتعلق الأمر بالصيغ الليبرالية المستحدثة على غرار الصيغة الأمريكية أو حتى البليرية البريطانية. وفي ظني أن الليبراليين العرب وهم قبضة معزولة من الكتاب والمعلقين لا يحتاجون إلى من يكافحهم بفتوى. فقد الحق جورج بوش أذى كبيرا بهم عبر حروبه العدوانية الحاصلة أوالمبرمجة فبدوا كصدى هامشي لهذه الحروب ناهيك عن أنهم قبل بوش لم يتمكنوا يوما من النفاذ جديا إلى أية شريحة اجتماعية عربية بخلاف الماركسيين الذين لعبوا أدوارا في العديد من البلدان العربية والمسلمة ومازالت أحزابهم على تراجعها وضعفها قائمة على الخريطة السياسية الحزبية العربية. لكن لماذا بدا ويبدو دائما أن لا مستقبل ولا أفق أمام الليبرالية في العالم العربي؟ الإجابة عن السؤال تملي العودة إلى النظرية الأم. الليبرالية بحسب القواميس المتداولة نظرية أوروبية نشأت في عصر “الأنوار” في القرنين السابع عشر والثامن عشر وانتشرت من بعد حول فكرة تقول إن كل كائن حي يمتلك حقوقا طبيعية لا يجوز لأية سلطة النيل منها أو التعرض لها وربطت من بعد بالديمقراطية. وفي الاقتصاد انتشرت حول شعار الرأسمالية الشهير” دعه يعمل دعه يمر”. وتنحو الليبرالية في معناها العريض إلى إقامة مجتمع متميز بحرية تفكير الأفراد واحترام الحق الفردي الطبيعي وحرية تبادل الأفكار وانتشار اقتصاد السوق والمبادرة الخاصة، وإقامة سلطة سياسية شرعية وشفافة تحفظ حقوق الأقليات. ويحظى المفكرون الليبراليون الأوائل شأن آدم سميث وكينزي وجان جاك روسو ومونتيسكيو وجون لوك وتوكفيل وغيرهم باحترام كبير حول ضفتي الأطلسي، وقد لعبوا أدوارا مهمة في تحرير الطاقات الكامنة في أوروبا وبالتالي كانوا شركاء غير مباشرين في النهب التاريخي الذي تعرضت له قارات وأمم العالم الأخرى، ما أدى إلى تراكم خرافي للثروة في الغرب مازال مستمرا منذ أكثر من ثلاثة قرون حتى يومنا هذا. واليوم يناضل الليبراليون في أوروبا من اجل تخفيف تدخل الدولة في شؤون الناس وحصره في مجالات الأمن الداخلي والقضاء والدفاع الخارجي وبالتالي إطلاق حرية رأس المال على غاربها عبر حرية المبادلات دون قيود، وعبر تعميم اقتصاد السوق على الكرة الأرضية بأسرها. ويفترض الليبراليون أن التبادل الحر لا ينطوي على خطر الفوضى لأن نظام السوق يقوم على العرض والطلب وبالتالي ينظم نفسه بنفسه دون الحاجة إلى سلطة الدولة وتدخلها. وإذ تدعي الليبرالية مكافحة الاستبداد وتدعو إلى الحرية المطلقة فهي بدعوتها لاقتصاد السوق وحرية المبادلات واعتراضها على دور الدولة الاقتصادي تساهم بإنتاج أبشع أنواع الاستبداد ممثلا برأس المال المتوحش الذي يهمش الضعفاء في الغرب ويحرمهم من أنظمة الخدمات العامة التي توفرها الدولة ويفترس بالمقابل ثروات الشعوب والأمم الفقيرة في الشرق أو ما تبقى منها ويخوض حروبا طاحنة ضد كل من يعترضه ويمرغ أنوف الممانعين بالوحل. أما في بلداننا العربية فلنا أن نتخيل ما تعدنا به الليبرالية المتوحشة إذ تتحالف مع الدولة العبرية وتدفع بها لتكون وكيلا في منطقتنا لكل متوحشي رأس المال ولصوص المواد الأولية وسائر مستبدي العالم “الحر” الجدد والقدماء... الخ. عندما يبحث “ليبرالي” عربي مفترض عن حلول لمشاكل بلاده عند آدم سميث فانه يسير قاصدا أم غافلا على خطى أحمد الجلبي وكنعان مكية وفريد الغادري وفؤاد عجمي وسلمان مصالحة وغيرهم، ذلك أن شروط اللعبة الليبرالية لا تحددها أفكار ادم سميث أو الكسيس دو توكفيل وإنما البورصات العالمية وأسعار صرف العملات والفوائد والأسهم التي تعبر الكرة الأرضية ومعها الأساطيل والترسانات العسكرية والثمانية الأكثر استبدادا وتصنيعا. هؤلاء يعينون “المارق” أو “الشرير” في السوق الكوني ثم ينهالون على بلاده ويعيدونها إلى “العصر الحجري”. في مواجهة الليبراليين العرب لا يحتاج المرء إلى فتوى بل إلى شعار “دعه يقول ما يريد في أي شيء يريد” فهو من أثر “غيمة” نظرية لم تمطر ولن يمطر في بلاد العرب الممتدة بين الماء والماء. الخليج |