حضــــــــــــرموت..التي لم يخلق مثلها في البلاد (1) ثلاثون عاماً هتفت بها في داخلي لأجيب بالموافقة على طلب رئيس التحرير بالتوجه إلى "حضرموت" والقبول بالتخلي عن عادة التدخين السيئة مدة عشر ساعات تقطعها الحافلة من صنعاء إلى مدينة "المكلا" حاضرة حضرموت وساحلها الفيروزي. قبل أن تسلمنا المرتفعات الجبلية إلى الصحراء كان العجوز الحضرمي الوقور بجواري قد بدأ يصفق ويتمايل طرباً لصوت المطرب الحضرمي المشهور "بالفقيه" كان أسنّ من في الحافلة، ولكنه ارقنا طبعاً وأكثرناً ظرفاً لأنه ببساطة "حضرمي" لا يفقد وقاره إلا طرباً لصوت الدان. تلج حضرموت من بوابة القيظ صحراء على امتداد بصرك قاحلة إلاَّ من بعض خيام البدو وإبلهم.. لماذا يسكن هؤلاء الناس هنا؟ وكيف؟ إنها لذة الرضا وقرة العين بالحرية التي جعلت "ميسون الكندية" تمل قصر معاوية وتقول: لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إليّ من قصر منيف ولبس عباءة وتقر عيني أحب إليَّ من لبس الشفوف وجلف من بني عمي غليظ أحب إليّ من ملك شريف الحرية عند "ميسون" أهم من الخبز، أما أنا فلا أجد حرية لجائع. من رحم الصحراء تولد "حضرموت" الوادي "بمعاجنها وجبالها المنحوتة بإتقان، وكأنها تماثيل صدئة لمن سكنها من جبابرة ثمود، وعاد، الذين جابوا الصخر بالواد، ونحتوا الجبال بيوتا، وأقاموا ناطحات السحاب من الطين ليقولوا من أشد منا قوة.. تحت هذه الأرض القاحلة 10.000مليار متر مكعب من المياه تشكل 96.4% من إجمالي المياه المخزونة في اليمن، يمكن بالحفاظ عليها وحسن استغلالها تحقيق الأمن المائي والغذائي لليمن لعشرات القرون وخلف هذه الصحراء روحانية "الشحر" و "تريم" وترف "شبام" و"سيئون" وسحر "المكلا" يطير بك إلى الطبيعة البكر في "سقطره"، وكأن هذه البلاد تشترط الجهد للمتعة فهي لا ترحب بمن لا يكد لأن طريق الراحة التعب، هذه العقيدة تعلمها أبناء حضرموت من بلدهم، سواء في ذلك كبار رجال المال المشهورون أو "فوزي" سائق الباص الشاب في المكلا الذي ما إن يعرف أنك غريب حتى يفتح لك قلبه بطيبة تحس معها أنك تعرفه منذ زمن بعيد، وتنسى غربتك (أنا أعمل سائقاً عند مالك هذا الباص عرض عليّ أبي أن يشتري لي واحداً فرفضت، أنا أريد أن اشتريه بنفسي، ومن كدي.. الفلوس اللي تجي بالساهل تروح بالساهل، وما تحسب بقيمتها، ويبدو أن هذه الفلسفة هي سبب ما عرف به أثرياء حضرموت من حرص على المال، وما انتشر من تندر بأقاصيص بخلهم. بسطاء الناس هنا كرماء، وأغنياءهم لا يغمطونك حقك.. يتابع فوزي حديثه قائلاً: شوف اللي يعتمد على فلوس أبوه، وما يشتغل يضيع، ويدخل بالسياسة والمخدرات، أنا كنت أعرف شلة شباب ما عندهم عمل غير يتكلموا بالسياسة، ويشربون حبوب وخمر، يضيف ببراءة (الخمر هذا يصنعوه من الأحذية المقطعة تركتهم وقلت يكفيني أنا القات بلوة، ورحت على عملي). في المكلا تشعر بالسلام والطمائنينة.. لا أحد يتدخل في شئونك، أو يتطفل عليك، وإذا قابلك شحاذ هنا- وهو أمر نادر- فإنه يطلب منك الصدقة بصوت منخفض، ودون إلحاح، أو تلاوة خطبة من الرقائق عليك، إنك لا تجد من أبناء المكلا من يرد عليك بغلظة، أو يتشاجر، أو يشهر سلاحاً، وإنما تجد الكثير ممن يقدم لك المساعدة إن احتجت إليها.. حي السلام هو الاسم الذي أطلق على المكلا القديمة ذات البيوت البيضاء المقامة على الطراز المعماري الإسلامي ممتزجاً بالنقوش الهندية، والأسقف الانسيابية والشرفات الملونة لمناطق جنوب شرق آسيا، فحين تقف أمام "سكة يعقوب" في الجهة الشرقية تحس أنك في ردهة قصر أندلسي الأعمدة المستديرة، وتيجانها المربعة، وأقواسها المدببة، وما أن تدير إليها ظهرك حتى يستقبلك جامع ورباط الروضة بمئذنته المخروطية الذي أنشئ في القرن الثاني عشر الهجري ليستقبل طلبة العلم في حلقات التفسير، والفقه، والحديث، والتاريخ، والأدب، وظل غير منافس في هذه المدينة حتى قام السلطان عمر بن عوض بن عمر القعيطي الذي حكم بين عامي 1921-1935 بإنشاء جامع "عمر" في حي الحارة المجاورة له ليأتي السلطان صالح بن غالب بن عوض القعيطي 1953-1956م لينشئ خلف الجامع مكتبة عامة لا تزال مفتوحة الأبواب لروادها منذ تأسيسها 1941، وحتى الآن، وتزخر بنفائس كتب الدين واللغة والتاريخ، والفكر يقول النقيب عبدالله محمد الناخبي (اعتدت على ارتياد هذه المكتبة وأنا طفل في الصف الثاني الابتدائي، أنا لا أقرأ هنا وحسب، وإنما أتنسم عبق التاريخ في هذا المكان، وأرى صورة جدي عبدالله أحمد الناخبي صاحب فكرة إنشاء المكتبة، وأول أمين لها) كان محقاً في شعوره، فهنا أنت تتماهى في روحانية المكان، وعبق التاريخ لتخرج مشرقاً يتلقاك بائعو "الحنا" و"اللبان" و"المر" و"البخور" خصوصية حضرموت التاريخية التي عبرت بها المحيط الهندي نحو الشرق ناشرة ضياء الإسلام، وسماحة شمائله التي يلخصها حديث رسول الله "ص" المكتوب على مدخل جامع "عمر" (ما نهيتكم عنه فأنتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم)، وهو حديث فهمه أبناء هذه المنطقة جيداً، فأنت تجد فتاوى إبن عثيمين السلفية معلقة على مدخل الجامع الذي لا يبعد أكثر من مئتين متر عن قبر الولي (المحجوب) بقته الفخمة وإفريزهالمزخرف بغاية الروعة، ما بين جامع عمر القعيطي وقصره المطل على البحر تجتاز مسافة من الجمال والزهو تنثره عليك المباني البيضاء بهلالياتها وأقواسها المدببة ونقوشها الخارجية وزخارفها المتنوعة التي تفصل بين أدوار المباني الشامخة البيضاء وشرفها الخشبية،ونوافذها المزخرفة المغطى نصفها العلوي بالستائر البيضاء المطرزة بالزهور، وتوضع خارج النافذة لتعترض طريق النسائم وتستضيفها في هذه المنطقة الحارة، وما إن تقترب من القصر حتى تحس إنك تخرج من القيروان في المغرب العربي، وتدخل شارعاً عميقاً في جاوه وتبدأ الألوان البنفسجية والزهرية والأخضر الفاتح بالظهور على المباني حتى تصل إلى باب قصر القعيطي الذي ينتصب كمعبد بوذى على الساحل لا ينقصه غير تمثال "بوذا" ودوائر الخير على درجاته أنشى هذا القصر عام 1925 ليكون سكن السلطان ومقر عمله، وهو الآن يفتح أبوابه لاستقبال الزائرين من السواح الذين يرغبون في معرفة ملامح الدولة القعيطية التي أسسها السلطان عوض عمر عبدالله القعيطي عام 1988م وانتهت بالسلطان غالب عوض صالح القعيطي عام 1967م صالة استقبال الوفود وكبار رجال الدولة، وغرفة العرش السلطاني الذي صنع في الهند من الفضة الخالصة، وكان السلطان يجلس عليه في الاحتفالات الرسمية متكئاً على رأسين لأسدين من الفضة عيناهما من الجوهر جاثمين عن يمينه ويساره، محاطا بأربعة صولجانات يقف عند كل واحد منها حارس شخصي، وأعجبني كثيراً صورة الأمير عمر بن عوض، وهو يسلم كأساً فضياً لنادي شباب القطن بتاريخ 27/7/1965م. السلام والسكينة قانون يحكم المكلا ولا يتمرد عنه إلا موج البحر الغاضب من تحدي العمودي له بردم أجزاء منه وإضافتها إلى الساحل واستثمارها أغلب المكلا الجديدة تعرف بكبس العمودي، بينما يقوم (بقشان" باسترضاء البحر بفتح لسان بحري إلى الداخل تطل عليه أحياء المكلا الداخلية، ويستوعب مجاريها، جدلية المال والبحر هذه لا تعني إلا وفاء هذين الرجلين لانتمائهما إلى هذه المحافظة، وأن بعد المكلا شاق، عند أبنائها، مهما كان في الغربة من ثراء ورفاه فتحت هذا الشعار انعقد مهرجان البلدة السياحي الأول 15-29/7/2004م في محاولة قيادة محافظة حضرموت لإرسائه كتقليد سنوي يدعم النشاط السياحي في المحافظة، ففي هذه الفترة من كل عام تكون الشمس في منزلة البلدة، ويتدفق تيار بحري بارد على المنطقة المحصورة بين "بروم" والشحر من ساحل حضرموت يتوارث الناس هنا اعتقاد أن الاستحمام في مياه البحر في هذا الموسم يشفى من أمراض المفاصل الروماتيزم والنقرس، وأوجاع الظهر المزمنة، وهو اعتقاد لم يعد مقصوراً على أبناء المكلا، وإنما يشاركهم في ذلك أبناء حضرموت الداخل، والمحافظات المجاورة، وبدا ينتشر في بقية المناطق اليمنية، والدول المجاورة الذين بدأوا بالتوافد على المنطقة في هذا الموسم، من السعودية، وعمان، والإمارات العربية، طلباً للاستحمام والاستشفاء والمهرجان يحاول أن يجمع للسائح بين المتعدة والترفيه وبين الفائدة المنشودة؛ حيث يمكنك أن تستمتع مساءً بالدان الحضرمي، ومشاهدة رقصات "الكامبورا" و"العدة" و"الشبواني" و"الزامل" و"ينبع" و"دربوكه" وغيرها من العروض الفلكلورية والفنون الشعبية من سائر المناطق اليمنية التي يستضاف مطربوها وفرق الفنون الشعبية فيها. لك أن تتخيل ما شئت من طرب ومتعة وأنت تستمع إلى الفنان "سعيد نصيب" وهو يشدو بفنه الأصيل على شاطئ المكلا مربتاً بحنان على الموج الهادر، ولكن أي شعور سيتملكك حين تعرف أنه مقعد لبى نداء المكلا على كرسيه بعد 16 عاماً من الغربة.. نعم (بعد المكلا شاق). عليك أن تعبر عن امتنانك لطيبة هذه المدينة بإطعام الدلافين التي تقدم لك حركاتها الاستعراضية مجاناً على شاط "الفوه" وحاول ألا تنسى قلبك وأنت تغادر هذه المدينة إلى "الشحر" ثاني أكبر مدن حضرموت الساحلية، وأعرقها تاريخاً. |