(( ملـــف خــــاص ))

بقلم-نزار العبادي -
احتلال العراق.. وأسرار المؤامرة الأمريكيةالأكبر
عام مضى من غير أن يعي العالم حقيقة ما كان، أو يقرأ نبوءات ما سيكون غداً.. فصخب القذائف، والصواريخ، والرصاص اختلط بصراخ الثكالى وفزع الأطفال، و أنين المتوجعين، من غير أن يترك لأحد لحظات سكون لسماع صوت المؤامرة القذرة المرتجع من أقبية البيت الأبيض العتيق، ومن ثكنات الاحتلال في بغداد.
ومع أن العام الأول مضى، لكن الحقائق، والأسرار لما جرى ويجري في العراق ما زالت دفينة ومتوارية عن أنظار كل الذين طالعوا مفردات الغزو الأمريكي للعراق، وتمحصوا في ثناياها، ليس قصوراً في وعيهم- بل لأن مخططات المؤامرة كانت أكثر دناءة مما قد يتوارد من منطق إلى أي رأس نظيف.. وهو الأمر الذي- ربما سنلامس بعض خفاياه من خلال هذه المطالعة لمفكرة الاحتلال الأنجلو- أمريكي للعراق.
· ليس النفط أولاً
درج السياسيون والمحللون عند الحديث عن دوافع الحرب على تقديم المطامع النفطية الأمريكية على أي اعتبار آخر، معززين آرائهم بحسابات المخزون الاستراتيجي الأمريكي من موارد الطاقة والتقارير الاقتصادية المحذرة من نضوب بترول بعض الدول المنتجة قبل عام 2020م.
لكن تقارير أخرى صدرت هذا العام من جهات غير أمريكية كشفت أن الأمريكيين بالغوا كثيراً في تقديراتهم، وأوعز الخبراء دوافع المبالغة إلى رغبة الإدارة الأمريكية في وضع مشكلة النفط أمام أنظار العالم علانية كي يصبح هناك ربط ديناميكي لأي مستحدث بالسلوك السياسي الأمريكي بهذه المشكلة المطروحة، وهو ما حدث بالضبط.. في حين أن مشروع غزو العراق كان قائماً منذ أواخر الثمانينيات بعد فشل مخطط (الاحتواء المزدوج) لكل من العراق وإيران الذي كان (مارتن أندكس) تقدم به لمجلس الشيوخ للقضاء على قوة العراق (القومي) وإيران (العقائدية الإسلامية)، فكان أن خرج الطرفان بمهارات أعظم، ومشاريع صناعية عسكرية طموحة.
وفي الحقيقة، لو كان النفط العراقي يتصدر المخططات الأمريكية لما تأخرت أمريكا عن اجتياح العراق في عام 1991م بعد هزيمة العراق في الكويت، وتوغل القوات الأمريكية في الأراضي العراقية حتى مدينة (السماوة)- 275 كيلو متر جنوب بغداد- في الوقت الذي جرد التمرد الشيعي في الجنوب السلطة العراقية من ثمان محافظات كبيرة ووقف على مسافة 60 كيلو متر من بغداد، بينما زحف الأكراد من جهة الشمال وسيطروا على خمس محافظات، وامتد الاضطراب إلى مناطق عديدة في بغداد نفسها مثل (الثورة، الكاظمية، الحرية، الشعلة، المحمودية) وغيرها.. فما كان من القوات الأمريكية إلا أن تسمح للقوات الحكومية بالتحرك بحرية، وقدمت لها دعماً لوجستياً لتمكنها من قمع التمرد واستعادة سيطرتها.
· تفكيك إنموذج الدولة
مثل العراق حتى عشية الثاني من أغسطس 1990م الأنموذج العربي الوحيد الذي يمتلك مقومات الدولة- إذ لديه رأس المال (البترول) الكفيل ببناء أي نهضة سريعة، والأرض الزراعية الواسعة الكفيلة بتحقيق الاكتفاء الغذائي، ثم القوة البشرية- وهي قوة نوعية ذات كفاءات عالية جداً.
أن تلك المقومات، مضاف إليها توجه سياسي ذو طابع قومي، وأحلام طموحة، كان من شأنها أن تتحول إلى قطب شرق- أوسطي جديد يمتلك مفاتيح اللعبة السياسية للمنطقة في غضون بضع سنوات. وهو ما يعني احتمالية سحب البساط من تحت الأقدام الأمريكية- وربما- اليهودية أيضاً.
وعلى هذا الأساس- وانطلاقاً من تلك المخاوف- رسمت الإدارة الأمريكية أولى مؤامراتها القذرة إزاء العراق، وكانت في إخضاعه لحصار طويل تحت وقع تهديدات مستمرة، وتفتيش دائم ضمن مشروع (مسخ مقومات الدولة العراقية بكل عناصرها).. ومنذ حرب الخليج الثانية باشرت الولايات المتحدة مهمتها في إطار المرحلة الأولى منها، التي استهدفت فيها ما يلي:-
1- تعطيل رأس المال، ومنع الاستفادة منه.
2- تدمير القاعدة الاقتصادية الإنتاجية العراقية، وتشتيت المهارات الفنية العلمية في العالم.
3- حرمان الدولة العراقية من كوادرها الماهرة بدفعها للهجرة خارج بلدها بحثاً عن فرص العيش.
4- القضاء على البنى التحتية- خاصة التعليم والصحة- للحيلولة دون تنامي أجيال سليمة تحمل مواصفات أسلافها، وبالتالي فإن أجيال الحصار (الضعيفة صحياً وتعليمياً) هي من سيصبح القوة المنتجة والحاكمة بعد ثلاثة عقود.
5- سلخ المجتمع العراقي من القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية بتأثير أعوام الجوع والعوز التي تقود إلى استحداث أنماط سلوكية واجتماعية مضطربة، وأحياناً شاذة.
6- عزل الشعب العراقي عن الركب الحضاري العالمي، وتعطيل فرص نموه وارتقائه، وحتى أدواره الخارجية.
7- جعل العراق منطقة غير مستقرة، واستخدامها كورقة ابتزاز وتهديد لجيرانه، بما يخدم مصالح أمريكا.
· لا بد من التقسيم ولو طال الحصار
يأتي احتلال العراق بوصفه المرحلة الثانية من المشروع الأمريكي، ولم تكن الرؤى بهذا الاتجاه واضحة لدى الأمريكيين، وكانت الإدارة الأمريكية مترددة بشأنه ما بين الاكتفاء بما يثمره الحصار وبين المسح الكلي للدولة العراقية، ثم البت فيه عام 1998م على يد الرئيس كلينتون، وكان من أكبر المتحمسين لفكرة الاحتلال ثلاث من الشخصيات الأمريكية المتشددة ممن استعجل جورج بوش (الإبن) لغزو العراق وهم (كولن باول، ورامسفيلد، وكوندليزا رايس) والذين شكلوا جبهة صلبة تتبنى الخيارات الصهيونية التي لا قبيل لدعاة التغيير السلمي بالصمود أمام مؤامراتها الاستخبارية التي تزور التقارير وتختلق الأكاذيب، والمخاوف التي لا وجود لها أصلاً.
وترسخت قناعة البيت الأبيض بجدوى الحرب عقب الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2000م. فلقد تجرع الأمريكيون لأول مرة طعم الموت القادم من الشرق (الإسلامي)، وبات التفكير يتجه صوب خلق وجود عسكري أمريكي فاعل في قلب الشرق الأوسط، يمارس دور (الشرطي) على أنظمة العالم الإسلامي، ويعمل على رسم هوية سياسية وثقافية وجغرافية جديدة للمنطقة.
كان مشروع احتلال العراق يعني الكثير للولايات المتحدة. ومما يعنيه الآتي:-
1- عزل (سوريا ولبنان والأردن) عن عمقها الاستراتيجي المتمثل بالعراق. ولعل خسارة سوريا لعمقها العراقي، ولخطوط دعم حليفها الإيراني القديم سيضعف موقفها كثيراً، ويجعلها اللقمة المستساغة على طاولة السلام مع إسرائيل.
2- عزل المد الديني الإيراني عن أدواره المحتملة بجبهتين (عراقية وأفغانية)، وثالثة حليفة من خلال تركيا، على أمل أن تستغل الولايات المتحدة مشكلة الجزر الإماراتية الخمسة مستقبلاً في فتح قنوات الضغوط على إيران، وزعزعة أمنها، إلى جانب قنوات دعم أخرى للتيار الإصلاحي وبدا واضحاً أن البيت الأبيض يراهن على تفكيك إيران على الطريقة السوفيتية.
3- إن من شأن مشروع تقسيم العراق وفق مقاييس طائفية وعرقية التمخض عن كيانين مقلقين، أولهما في الشمال، من خلال استخدام الورقة الكردية لزعزعة استقرار إيران وسوريا عبر غرس نزعة الدولة الكردية المستقلة لدى الأكراد في دولتيهما، دون السماح لهما بامتلاك مقومات الانفصال الفعلي. أما الكيان الثاني فهو في الجنوب، من خلال استغلال الورقة الشيعية لتهديد وابتزاز السعودية ودول الخليج، عبر غرس مخاوف ( المد الشيعي المدعوم إيرانيا) وأفكار تصدير الثورة الإيرانية إلى بلدانها.
4- إن من شأن طمس معالم المجتمع العراقي المحافظ من خلال التعددية الحزبية والفكرية والعقائدية، والحريات المفتوحة على نحو كبير، قد يتحول إلى نمط تحرص الولايات المتحدة على تصديره إلى دول الخليج العربي- ولو جزئيا- بقصد تفكيك قواعد المجتمع المحافظ، وتفسيخ قيمه بما يضمن عدم تنامي أية حركات أصولية أو تنظيمات إسلامية مؤثرة سياسيا.
5- سعي الولايات المتحدة إلى موازنة ثقل الاتحاد الأوربي، الذي بات يثير إرتيابها من تناميه السريع، ومنافسته للاقتصاد الأمريكي. إلا أن بناء وجود حقيقي في العراق سيعني في نهاية الأمر فرص هيمنة كاملة على 65% من مصادر الطاقة العالمية التي بدونها لن يكون بمقدور الأوربيين تحقيق أي قدر مهم من النماء والتقدم، ولا شك أن سياسة العولمة الأمريكية بحاجة إلى ضمانات القوة التي تحميها، وتسير بها قدما، وهو ما ستكفله القواعد العسكرية التي ستبنيها في العراق بعد احتلاله.
6- إنعاش الاقتصاد الأمريكي بثروات عراقية، واستثمارات لا حصر لها يقدمها مشروع إعادة بناء العراق، وأعمار قطاعاته المختلفة التي دمرتها القوات الأمريكية عن سابق قصد.
· فدائي+ عسكري+ بعثي
مع بداية شهر مارس 2003م بدأ العد التنازلي لساعة الحرب على العراق، وقبل ذلك بأشهر ثلاث أو أربع أيقن صدام حسين أن الحرب قائمة لا محالة، لكنه رغم ذلك كانت خياراته محدودة جدا، ولم يكن رهانه إلا على طول مدة الصمود مع الأمريكيين، وحدوث معجزة من نوع ما.
نشر صدام الفيلق السادس في البصرة والناصرية والعمارة كمنافذ لا مناص للأمريكيين من المرور عبرها. ولضمان عدم خيانة الجيش أو تمرد الشيعة في الجنوب قام بتطعيم وحداته العسكرية بعناصر ( فدائيي صدام) وأفراد ( الجيش الشعبي) المؤلف من البعثيين، وأطلق أيدي الفدائيين في إعدام كل ( متخاذل) وكل مدني يرفض حمل السلاح ومواجهة القوات الغازية ولما لم يكن بوسعه حماية قطعاته بغطاء جوي، وجد نفسه أمام خيار وحيد وهو إخفائها في المدن وجعل المدن تدافع عن الجيش وليس العكس.
القوات الانجلو- أمريكية وجدت الظروف مهيأة أمامها. فالعراق لا يملك ما يحمي به سمائه، وهذا الأمر وحده ساعد الأمريكيين على أمرين: أولهما الارتكاز على القوة الجوية في تحطيم قدرات الجيش العراقي، وتدمير عدد كبير من وحداته الضاربة. أما ثانيهما فهو أن قوى الاحتلال وجدت أمامها طريقا مفتوحا بلا أدنى حماية من الناحية الغربية للعراق، ذات الطبيعة الصحراوية، فشقت طريقها عبرها سريعا حتى بلغت العاصمة، وأخذت تحيط بها، في الوقت الذي صار الطيران يرصد مصادر المقاومة ويدمرها.
ومع مخاوف صدام على العاصمة، فإنه أبعد الحرس الجمهوري إلى مشارفها، وعهد إلى حرسه الخاص بحماية داخل المدينة، بانتظار جر الجيش الأمريكي إلى حرب شوارع تكلفه الكثير جدا وبدا وأضحا أن القيادة العراقية لم تضع خططا مسبقة للقيام بعمليات نوعية تستهدف فيها قطع الإمدادت أو جسور العبور على قوات الاحتلال بعد توغلها لحوالي ألف كيلو متر في الأراضي العراقية، ولا حتى الاستفادة من السدود في إغراق جبهة واسعة جدا من محيط العاصمة وعرقلة حركة المحتل. لكن المعلومات تفيد بأن صدام بعد أن قسم العراق إلى أربع أقاليم عسكرية أعطى جميع قياداتها حقوق التصرف بحرية في إدارة المعارك ورسم الخطط المناسبة لتطوراتها، في الوقت الذي كان هؤلاء القادة لا يمتلكون خبرات عسكرية، وفي نفس الوقت لا يسمحون للقيادات العسكرية للوحدات الواقعة تحت نطاقهم باتخاذ أي قرار أو الاجتهاد برأي
· هزيمة سريعة.. وسقوط مفاجئ.
رغم أهمية مطار صدام، ومعسكر الرشيد إلا أن قوات الاحتلال حاولت المبالغة في تصوير اهتمامها بهذين الموقعين، بقصد استفزاز النظام العراقي وتحفيزه لتحريك بعض وحداته الضاربة صوبهما، وتحشيد أكبر عدد ممكن من القوات في منطقة محدودة يسهل إبادتها بالقنابل التكتيكية الفتاكة، وهو ما حدث بالضبط.
ولما حاول صدام رد الاعتبار لنفسه من هذه الخديعة، قام بانتهاز الليلة التالية واغرق المطار وما جاوره بالمياه حتى نفذ الماء إلى داخل مواضع جنود الاحتلال وحينها أوصل المياه باسلاك شبكات الضغط العالي الكهربائية، مما تترتب عنه قتل مئات الأمريكيين. إلا أن قوات الاحتلال لم تنتظر طويلا حتى انتقمت لنفسها بمئات الأطنان من القنابل الفتاكه- التي أبادت جميع القوة العراقية المتحصنة قرب المطار.. وكان ذلك أهم حدث قاصم لظهر قوات حماية بغداد.
الحدث الآخر هو أن المروحيات الأمريكية قامت في نفس الليلة بإنزال ما يقارب 300 شخص من العراقيين المعارضين ممن كان يتلقى تدريبات في الخارج، ووزعتهم على مناطق مختلفة من بغداد.
للقيام بأعمال مسح كامل لمواقع للقيام بأعمال مسح كامل لمواقع انتشار قوات الحرس الخاص، ومخابيء آلياتهم وغيرها. لكن بعد توجيه القوات الأمريكية ضربات موجعة لها حدثت المفاجأة – إذ أن قائد الحرس الجمهوري الخاص حاول الاتصال بالرئيس صدام حسين لأكثر من مرة لا ستشارته بأمر ما ، إلا أن ( قصي) هو من كان يرد على الاتصال في كل مرة، ويرفض إيصال القائد بالرئيس، فيرفض الآخر إخباره بما لديه، حتى مرت ساعات وغلبت العصبية على لغة المكالمة، فانهى القائد مكالمته بقوله ( لماذا لا تقول أن صدام قتل ..؟ أكيد قتل.. خلاص ما عاد يسوى نبقي نقاتل).
وفي تلك اللحظة أصدر القائد تعليماته بأن ( المعركة انتهت، وكل واحد يروح لبيته)وكان بعض الضباط حاضر عند الاتصال مع قصي " فسلموا للأمر ذاته.. وهكذا توالت انهيارات القوات العراقية، وتخلى الجميع عن مواضعه.. وما هي إلا سويعات حتى كانت هناك 60 دبابة أمريكية تقتحم قلب العاصمة بحذر.. غير مصدقة أن تدخلها بهذه السهولة. لقد كان من أكبر أخطاء صدام حسين هو أنه حصن حكمه بدائرة الأقرباء- واغلبهم لم يكن مؤهلا أو مثقفا- ناسيا أن دائرة الشرفاء الصادقين هي وحدها من تخلص النية، وتفي العهد في الزمن الحرج، والظرف العصيب.
· المؤامرة الأكبر تعلن نفسها.
منذ يوم التاسع من أبريل 2003م الذي سقطت فيه بغداد كشرت المخططات الخطيرة عن نواجدها. فقد توجهت فرق من المرتزقة والعملاء ( مجموعة كبيرة مؤلفة من عراقيين كانوا في الخارج وعرب من دول مجاورة) لكسر واقتحام الوزارات لتفتح الطريق أمام العامة لنهب محتوياتها، في حين كانت تلك الفرق تنتهز حالة الفوضى التي صنعتها فتجعل مهمتها الأساسية والأولى والأخيرة حرق الوثائق، والمكتبات، والسطو على المتاحف ونهب أنفس القطع الأثرية منها، وتخريب الباقي.
وكشفت الجهات العراقية التي كانت تدير تلك المتاحف أن من كان يقوم بينها هم أناس محترفون قادرون على التمييز بين القطع الأصلية والمزيفة وما هي أكثر قيمة تاريخية، فضلا عن معرفتها المسبقة بالمخازن السرية ومخططات المباني، مما يؤكد أنها مدربة، ومزودة بمعلومات لا تمتلكها غير الدول. ومع امتداد أعمال النهب والحرق للمراكز الثقافية والفنية وعلى نطاق مختلف محافظات العراق، فأن المؤامرة تعلن عن نفسها، بأن الحرية الأمريكية المزعومة لم تكن لتحرير العراقيين من صدام حسين، بقدر تحريرهم من هويتهم الحضارية وتاريخهم الإنساني، وتراثهم العريق.


تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 02-ديسمبر-2024 الساعة: 01:38 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/7956.htm