بوابة إلكترونية عملاقة لذاكرة العالم العربي استضافت دمشق أخيراً الاجتماع الثاني لمشروع «ذاكرة العالم العربي» الذي يعد من أهم المشاريع العلمية التوثيقية على المستوى العربي. يهدف المشروع إلى توثيق التراث والحفاظ على الذاكرة وجعلها متاحة على الانترنت، من خلال إنشاء بوابة إلكترونية تفاعلية عملاقة باللغتين العربية والإنجليزية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية في الدول العربية والمنظمات الإقليمية والدولية والمؤسسات الأهلية وعموم المهتمين حول العالم. وبغرض تفعيل أعماله، ناقش الاجتماع الثاني للجنة التنفيذية، ما تم إنجازه من وثيقة المشروع الذي انطلق منذ ثلاث سنوات، وما تم في الأشهر الستة الأولى من توقيع إعلان الشارقة - الوثيقة الرسمية المنظمة للمشروع – الصادر عن الاجتماع الأول في الشارقة أكتوبر (تشرين الأول) 2007. عقد اجتماع دمشق برعاية الأمانة العامة لاحتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008» و«مركز تريم للعمارة والتراث» في سورية و«مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي» في مصر، وبتنسيق بين كل من وزارتي الثقافة والاتصالات في سورية ووزارة الثقافة في مصر و«الجمعية السورية للمعلوماتية»، وكان مناسبة لتنظيم مؤتمر «التوثيق الإلكتروني للتراث العربي» على مدى يومين سبقا الاجتماع. شارك في المؤتمر 50 خبيراً من 16 دولة عربية، من الباحثين الناشطين في مجال التراث من الذين شاركوا منذ ثلاث سنوات على إنجاز المشروع. المؤتمر يهدف إلى وضع رؤية شاملة للتأسيس لتراث رقمي الكتروني موثق بحسب تصريح المهندسة ريم عبد الغني رئيسة مركز تريم للعمارة والتراث (المنسق العام للمؤتمر)، وهي تقول: لا بد من إعادة الاعتبار للمحتوى الثقافي والحضاري المستمد من تراثنا الأصيل بوصفه إحدى البوابات لتجاوز الإخفاق التاريخي. فيما اعتبرت الدكتورة حنان قصاب حسن، أمين عام احتفالية عاصمة الثقافة: ان التوثيق الالكتروني يأتي في مقدمة الحفاظ على التراث العربي. ومن جانبه، حذر الباحث عبد العزيز صلاح من مصر من التحديات الحضارية الكبيرة في كل من العراق وفلسطين والتهديد التي تتعرض له الهوية العربية والإسلامية، دون أن يغفل ما تبذله الإيسسكو من جهود في توثيق التراث الحضاري للدول الأعضاء. وأجمع المشاركون أنه لا يمكن تحقيق مشروع ذاكرة العالم العربي بما يلبي الطموح إلا باتباع خطوات حثيثة نحو تحقيق محتوى التراث الحضاري والطبيعي في العالم العربي بتسجيله الكترونياً ودعم جهود حماية التراث من خلال مشروعات لبناء نظم معلومات متكاملة وتعريف العالم بالإسهامات العربية في تشكيل حضارة العالم بشكل تفاعلي، والمساهمة في رفع كفاءة الأجهزة العاملة في مجال التراث الحضاري. وركزت المناقشات على حجم الفجوة المعلوماتية في العالم العربي، حيث لا يتجاوز حجم المحتوى العربي على الانترنت نسبة 0.5% من المحتوى العالمي. كما لا تتجاوز نسبة التراث العربي والإسلامي المسجل سوى 16.5% مما تم تسجيله على قائمة التراث العالمي. ونبهت هبة بركات، مساعد أول وزير الاتصالات المصرية إلى ضرورة الاستفادة من الميزة التنافسية في وحدة اللغة في العالم العربي، لصناعة محتوى معلومات عربي قوي قادر على المنافسة العالمية، وان ذلك يتطلب العمل على دعم مجتمع المعرفة والشعور بأهمية إتاحة هذا المحتوى الرقمي للتعريف بالثقافة العربية والحفاظ على الهوية الثقافية.إلا أن صناعة هكذا محتوى يتطلب برأي الباحثة ريتا عوض من فلسطين الترميم من جديد حتى لا يصبح العرب مجرد مستهلكين للكتاب والمسرح والموسيقى الغربية. بسام جاموس، مدير عام الآثار والمتاحف في سورية أشار إلى ظهور معطيات أثرية مهمة غيرت الكثير من المسلمات التاريخية... وبالتالي فإنها تحتاج إلى توثيق الإلكتروني. ففي سورية أكثر من عشرة آلاف موقع أثري. وفي السياق ذاته قالت الباحثة التونسية سامية يعيش: إن استراتيجية الحفاظ على المدن التاريخية يجب أن تعتمد على الجانب التوثيقي كنقطة انطلاق للشروع في التخطيط والدراسات وإقامة المشاريع. فهناك مئات المدن التاريخية الحية في العالم العربي منها 30 مدينة مسجلة في التراث العالمي في منظمة اليونسكو. الواقع الذي عرضه المشاركون كشف أن الطريق أمام تحقيق المشروع لا تزال طويلة جداً، لأكثر من سبب، كما ولفت إلى ذلك بسام جاموس أثناء حديثه عن تجربة المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية، التي أنشأت مديرية للمعلومات والتوثيق الإلكتروني عام 2006 وبدأت بأرشفة اللقى الأثرية بخطى بطيئة بسبب نقص الكادر. لذا فإن إطلاق بوابة الكترونية عربية عملاقة، تتيح الاطلاع على التراث العربي المادي واللامادي، تحتاج إلى أعداد هائلة من المهنيين لإعداد قواعد البيانات والقيام بعمليات المسح. ورأت حسانة محيي الدين، رئيسة قسم التوثيق والإعلام في الجامعة اللبنانية، ضرورة انخراط طلاب المعاهد والجامعات في هذه المشاريع، وقالت إنها بدأت مع طلابها بالسير في هذا الاتجاه، من خلال اختيار مواضيع التخرج لتصب في هذا الإطار. وقالت محيي الدين: يجب الاستفادة من حماس ونشاط الشباب، ومنحهم فرصة لاكتساب خبرة قبل دخولهم الحياة العملية، وفي الوقت ذاته يتم تثمير جهودهم، مشيرة إلى أن زيادة المحتوى العربي على الانترنت يحتاج إلى جيوش من العاملين لاختزال الزمن، إذا شئنا تدارك الفجوات الرقمية الهائلة الموجودة بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب من جانب، وبين الدول العربية بين بعضها بعض من جانب آخر. فهذه الفجوات تهدد الهوية العربية لأن غالبية مستخدمي الانترنت من الشباب وهؤلاء يأخذون ثقافتهم من اللغات الأخرى، لضعف المحتوى العربي. وترى محيي الدين أن تدارك ذلك يحتاج إلى توفر الإرادة على مستوى القيادات العربية واتخاذ القرار لتنفيذ هذه المشاريع. توفر الإرادة والاهتمام لدى القيادات، لا يبدو أنهما كافيان ما لم تتكامل مع جهود الجهات المعنية التي من شأنها وضع الخطط. وعلى سبيل المثال ذكر الباحث الموريتاني بيت اللـه ولد سيدنا ان ثمة ضعفاً كبيراً في التوثيق الإلكتروني للتراث الموريتاني رغم اهتمام الحكومة ببناء المتاحف والمكتبات، منبهاً إلى أن طبيعة الحياة في موريتانيا إلى جانب عوامل البيئة الصحراوية تؤثر سلباً في الحفاظ على آثار البلد. وهنا تبرز مشكلة أخرى تتعلق بالتطور المتسارع للانترنت، فما يتم التخطيط لتنفيذه على مدى سنوات، بناء على التقنيات الراهنة، قد لا ينجز إلا وقد ظهرت تقنيات جديدة تلغي ما سبقها. فسرعة الانجاز والقدرة على المواكبة هما عاملان أساسيان لنجاح مشروع من هذا النوع. بينما اعتبرت حسناء سخيطة، عضو اللجنة التنفيذية للمؤتمر، ان هذا النوع من المشاكل ممكن حله إذا توفرت النية لذلك، منوهة بما حققته مصر خلال السنوات الثلاث الأخيرة على صعيد التوثيق والفهرسة الالكترونية. وهي التجربة التي عرضها فتحي صالح، مدير مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي في مصر، وقال: إن الجهود أثمرت إنشاء المركز وثلاثة مواقع الكترونية مخصصة له، كانت نتيجة تعاون بين وزارة الاتصالات والتقانة المصرية ومكتبة الإسكندرية، وأن أهداف المركز الرئيسية تتمثل بخط الإنتاج التوثيقي المستمر والمشروعات على المستويات كافة الوطنية والدولية والإقليمية، كاشفاً عن وجود مجموعة من المشروعات المطروحة في مصر كتوثيق خريطة المواقع الأثرية في مصر التي تحوي العديد من النقاط وكل نقطة فيها تمثل أحد المواقع الأثرية وجميع مكوناته إضافة إلى مشروع توثيق المباني ذات القيمة المعمارية وتوثيق المحميات والطيور البرية والجوانب المختلفة للفلكلور والتراث الشعبي في مصر وكذلك التوثيق الفوتوغرافي. من جانبه وصف محمد صابر عرب، رئيس دار الكتب والوثائق المصرية، تجربة الدار في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بأنها رائدة على صعيد التوثيق. فلدى الدار حوالي 100 مليون وثيقة، وإنشاء قاعدة بيانات لها ضمن صيغتين ورقية والكترونية يحتاج إلى عمل مدة عام ونصف العام، وعشر سنوات كي تتوفر نسخ رقمية عنها تتاح لمستخدمي الانترنت. فعدا الوثائق هناك 13 ألف مخطوط باللغة العربية والعثمانية والفارسية وعدد كبير من العملات القديمة والبرديات. وقد تم البدء بالعمل منذ ثلاث سنوات مع كادر عمل مؤلف من 1500 خريج جامعي، من خارج الكادر الوظيفي للدار. بالاستناد إلى تجربة مصر، يبرز التنسيق والتعاون كعوامل مهمة لإنجاح مشاريع التوثيق الالكتروني، فمع أن المؤسسات الحكومية السورية بدأت تتنبه لضرورة التوثيق الالكتروني، حسب ما أفادت حسناء سخيطة، إلا أن توثيق التراث في مديرية الآثار والمتاحف مازال في بداياته ويحتاج إلى تنسيق مع الجهات الأخرى الحكومية والأهلية. فثمة جهود فردية تبذل في الجامعات السورية تحتاج إلى عناية أكبر كي تعطي نتائج على مستوى زيادة المحتوى العربي. وتجدر الإشارة هنا إلى النموذج الذي عرضه الدكتور حميدو حمادة، حيث قام مع عدد من طلابه بتوثيق المواقع الأثرية على طول نهر الفرات، داخل الأراضي السورية، بالإضافة إلى توثيق التراث غير المادي، وتكوين قاعدة معلومات ضخمة جداً من الصور والوثائق. وأيضا التجربة التي عرضها الباحث السوري هاني ودح في إعداد دراسة توثيقية لقلاع الساحل السوري بمشاركة عدد من طلاب الجامعة في جهد استغرق أكثر من خمس سنوات، إلا أن الباحث نبه إلى أن هذا العمل يبقى أحد أنواع التوثيق العشوائي متمنياً أن يكون هناك أسلوب توثيقي موحد في جميع الدول العربية. لذا لاحظ المشاركون ضرورة وضع منهجية عربية واحدة، وأكدوا على الاستفادة من تجربة مشروع «ذاكرة العالم العربي» لتنسيق تلك الجهود، وخرجوا بتوصيات تشكل مقترحات عمل مستقبلية للمشروع مع تصور حول تنفيذ البوابة الإلكترونية بأقرب وقت ممكن. |