المؤتمر نت - الشيخ / أنيس الحبيشي
بقلم الشيخ / أنيس الحبيشي -
دعاة الدولة الدينية .. والحقيقة الغائبة !!
أثارت قصة الطفلة «نجود» ذات السنين الثمان وتزويجها من رجل في الثلاثين من عمره جدلاً واسعاً في المجتمع اليمني والأوساط الثقافية والاجتماعية العربية ، وألقى الجميع باللوم على قانون الأحوال الشخصية اليمني و»تعديلاته»، والذي كان يتضمن تحديد سن البنت عند الزواج بـ «15» سنة منذ صدوره عام 92م كأحد القوانين التي أفرزها خير الوحدة اليمنية ! .. وبعد أن وصل حزب الإصلاح إلى السلطة بعد انتخابات 27 إبريل 93م، ومن ثم انفراده بها مع المؤتمر الشعبي العام بعد حرب صيف 94م التي ساهم فيها حزب الإصلاح بدور واسع سواء في اجتياح المحافظات الجنوبية ونهبها وسلب أراضيها وخيراتها إبان الحرب وبعدها ، أم بفتوى إباحة دماء الجنوبيين المتمرس بهم من قبل الكفار الاشتراكيين «حلفاء اليوم» ، وهي أسوأ فتوى عرفها المسلمون كان قد أحياها ورفع لواءها ابن تيمية أثناء حرب التتار «!» ، وعمل بها من بعده قادة الدعوة الوهابية وفلولها في اليمن على يد مفتي حرب الأشهر الحرم والذي تنصل منها مؤخراً اعتقاداً منه أنها « ضرطة عير بفلاة » لم يسمع بها أحد «!!» وتهرباً منه من الاعتذار لأبناء المحافظات الجنوبية عن هذا الجرم الفادح بحق دمائهم !! .

إن مشكلة «الأخوان» وعشاق «الحكم الديني» في إصرارهم على تعديل القوانين بما يتواءم وزعمهم مع الشريعة الإسلامية أنهم لم يفقهوا تطور الحياة ! ولم يقرأوا التاريخ الإنساني بموضوعية وعلم ! .. لذا تراهم يرعدون ويزبدون : لا حكم إلا الله «!» .. ويصرون على «الحكم بما أنزل الله » ! مع أن الذي أنزله الله هو العدل !! فأينما كان العدل فثم حكم الله ! وهو مقصود قوله عز وجل من سورة الحديد آية «25»: « لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ..» - وقوله تعالى : (( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )) ، ومنه قول أهل العلم: «إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة .. ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة» «!». وحتى قال ابن تيمية: ويقال أن الدنيا تقوم مع العدل والكفر! ولا تقوم مع الظلم والإسلام !!

ومن هنا نقول للإخوان المسلمين : هل العودة إلى الرق وبيع وشراء الرقيق ، واسترقاق أسرى الحروب، وإعادة نظام الجواري هو الشريعة التي تنادون بتطبيقها ؟! أم إن تحرير الرقيق ، وحتى إلغاء الرق عندما أمكن ذلك اليوم ، وتنظيم العلاقات الإنسانية المتطورة في السلم والحرب على أسس من العدالة هو نفس المضامين الكريمة التي لا يرفضها جوهر الإسلام ، ولا يعارضها روح الدين الإسلامي ؟!

وهل إلغاء نظام المعاشات التي لولاها لتفشت المجاعة بأبشع صورها المريعة وعم الفساد في البر والبحر هل ذلك هو العودة إلى شريعة الإسلام حيث لم يكن لهذه البدعة «المعاش» فيها ذكر ؟!

وهل عدم صرف شيء للشهداء الذين لم يكن لهم من الغنائم شيء ، وإنما هي قسمة بين الفارس والراجل من المقاتلين الأحياء هو العودة إلى الشرع الذي لم يقسم للشهداء شيئاً فنقسم لهم نحن استدراكاً عليه، معاذ الله ؟!!

أم أن صرف معاشات شهرية منتظمة لكل من عمل مع الدولة ثم تقاعد بسبب السن أو المرض أو الموت أو القتل تجري عليهم وعلى ذويهم ممن تلزمهم إعالتهم من بعدهم ليدفعوا بها جائحة الدهر، وضنك العيش، وذل الحاجة يتعارض مع جوهر الإسلام ومقاصده الحسنة والكريمة؟!

ولذلك كان وضع الامتيازات للشهداء، واستمرار جراية رواتبهم، وترقي رتبهم بعد استشهادهم، وتحسين وضع أسرهم لا يعارض ذلك روح الشريعة بحجة أنه لم يرد أو يُعرف تخصيص شيء من الغنائم للشهداء وإنما هي قسمة بين المقاتلين الأحياء !!

ومن هنا فلا جرم من تطوير الأحكام الشرعية بما يتلاءم مع تغير الظروف والزمان والأحوال والتي يستحيل تثبيت هذه المتغيرات لأن الممكن فقط هو تغيير ما أمكن من الثوابت بواسطة ما نسميه «الاجتهاد» .. لذلك كان الرقيق والاتجار به ، ونظام الحرب والغنائم معمول به منذ ما قبل الإسلام وفي كل أنحاء المعمورة الإنسانية فاستحال انفراد مجتمع الإسلام آنذاك بأي تغيير لهذا الواقع الذي أذنت الظروف فيما بعد بانتهاء الرق وتطور العلاقات الإنسانية في السلم والحرب فكان هذا التطور والتغيير هو من أصل وجوهر الإسلام ومقاصده المثلى كما قال الله : ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا».

وقوله تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء .. وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» .

وعلى هذا السبيل تم جمع القرآن الكريم الذي لم يجمعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحرب المرتدين على ترك الزكاة، وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، واسقاط حد السرقة في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في عام الرمادة، وتعديل الجزية، وإضافة نظام الخراج إلى جانب الزكاة وغير ذلك بل والتحول من الخلافة في الشأن السياسي إلى النظام الأسري وغير ذلك كثير !!

ولكن دعاة «الحكم الديني» لا يفقهون ذلك، بل يعادون العلم والمنطق والعقل والتفكير عداوة شديدة كانت ـ كما أعتقد ـ سبب عجزهم في إقامة نموذج لحكمهم ينفع الناس ويمكث في الأرض «!» .. فهم لم يقدموا لنا حتى الآن سوى نموذج طالبان سيئ الصيت الذي أودى بأفغانستان وشعبها والمسلمين في العالم إلى الضعف والتدمير والشتات «!!» .. وكذا نموذج محاكم الصومال التي عجزت عن صياغة مشروع دولة في الصومال «!» .. ونموذج الدولة الدينية الاستبدادية الكهنوتية في إيران والسودان والتي جعلت منهما حالاً لا يحسدان عليها «!» .. والآن نموذج المشروع الفلسطيني الانفصالي البائس في غزة «!» .. وهكذا دواليك نسأل الله أن يحفظ اليمن من التخلف والانحطاط والاقتتال والضياع «!»

وعودة إلى موضوع الطفلة «نجود» فقد نال موقف فضيلة رئيس محكمة غرب الأمانة إعجاب الكثيرين على ما بذله من اجتهاد خارج النص القانوني محاولاً إحياء قيم العدالة إلا أنني على يقين أن الذي ساعد الحكم القضائي على النجاح هو قبول الزوج والأب بحكم الفسخ وإلا فأنهما قادران على استثمار فرصة الاستئناف والتي بالتأكيد قد منحها لهم القاضي .. وبالتالي قد لا يكون الآخر مثل الأول «!!»

أحد مساوئ قانون الأحوال الشخصية اليمني أنه لا يبيح للمرأة إذا كانت يتيمة ولا ولي لها أن تتزوج إلا بإذن القضاء «!!»

بينما قبل تعديل القانون كان الأمر يفوّض إلى المأذون الشرعي بعد استيفاء بيانات انعدام الأولياء من مصادرها الاجتماعية والوثائقية إلا أنه وبعد التعديل تم سحب كل ذلك إلى القاضي «!»

الأمر الذي أدى إلى شحططة كثير من الأسر الكريمة التي فقدت وليها وعائلها إلى المحاكم والتسول على أبواب القضاء «!» .. وهات يا إعلانات «!» وهات يا شهود التصديق «!» ثم شهود التعديل «!» .. وهات يا حلفان يمين «!» .. وهات يا جلسة قفا جلسة حتى يصدر الأذن بتزويج اليتيمة بعد شق الأنفس «!!» مع أن هذا كان ينبغي أن يتبع فقط عند عضل الأولياء وامتناعهم عن التزويج لا عند انعدامهم !!!مع تسجيل بالغ احترامي لعدد من قضاة المحاكم ابدوا تفهمهم لهذا الأمر وعملوا على تسهيل إجراءاته ولكن ما أقلهم ؟!!

ومما أوجعني أن بنتاً يتيمة تقدم لها زوج مغترب ولما كانت أجازته قصيرة فوجئ بأن التوجه إلى القضاء للإذن بتزويج اليتيمة لم يكن سهلاً قرر فسخ خطبتها والعدول إلى غيرها مع شرطه الجديد هذه المرة ألا تكون يتيمة «؟!!» ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وفي الأخير «!» أود تسجيل ملاحظة هامة وضعت في الأذهان، علائم الاستفهام «؟ّ!»

وهي ذلك الموقف السلبي الذي ارتضاه الحزب الاشتراكي رائد قوى التحديث والتنوير وصاحب التاريخ الحافل بنبذ ورفض الأفكار الظلامية والدولة الدينية الكهنوتية حيث لم تشر صحيفته الناطقة باسمه حتى إلى مجرد خبر وقصة الضحية «نجود» مما يعزز الظن أن ذلك كان خجلاً واستحياءً وربما خوفاً وجبناً من غضب «القضاة والملالي» عليه الذي اصبحوا له «حلفاء اليوم» ورفاق ملتقى النازحين من السلطة ( ! ) حتى ولو كان ذلك على حساب المبادئ الوطنية والتقدمية التي حمل الحزب الاشتراكي لواءها طوال تاريخه حتى مثواه قبل الأخير في أحضان أو قل «حضيض» اللقاء المشترك. والله المستعان.

وثمة شيء آخر مهم وهو أن فخامة رئيس الجمهورية كان قد وجه الحكومة في شهر فبراير 2007م بتعديل المواد القانونية التي انتقصت من حق المرأة في كافة المجالات الاجتماعية والسياسية .. ونالت تلك التوجيهات اعجاباً واسعاً وتأييداً غير محدود .. إلا أنه اليوم وبعد مرور قرابة العام ونصف العام على تلك التوجيهات والتي لم تر النور بعد ، ولم تأخذ طريقها إلى التنفيذ من قبل الحكومة فإن ذلك يصبح محل تساؤل وتعجب «؟!!» بعد أن كانت محل إعجاب «!!» ولله في الحكومة شؤون !!
تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 02-ديسمبر-2024 الساعة: 01:42 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/56928.htm