خطر الثقافـات الفرعيـة يمكن تعريف ثقافة مجتمع بأنها مجموع القيم السلوكية، والأفكار والعقائد والتقاليد المتراكمة لدى أجيال تتعاقب تارخياً داخل أطر حيز جغرافي محدد.. وبالتالي فإن العصر الزمني للمجتمع هو الذي يحدد عمق هذه الثقافة أو تلك كون تراكم التجارب يكفل ترسيخ القيم الأفضل والمفاهيم الأنضج التي بوسع المجتمع التعايش بها، وضمان أسباب بقائه، وتلك هي ما نسميها بـ(الثقافة الأصيلة للمجتمع). لكن توسع رقعة الاحتكاك بين الشعوب والأمم أسهم في إيجاد حالتين: الأولى تتمثل في تجارب وخبرات مضافة من شأنها إثراء الموروث الثقافي وتطوير تجاربه القائمة، والثانية أنماط ثقافية نقيضة للثقافة الأصيلة للمجتمع –يمكن تسميتها بـ(الثقافةالفرعية)، والتي يتولد عنها صدام، وصراع مع الثقافة (الأم) المكونة لهوية المجتمع، والرافضة للجسم الغريب الذي اقتحم قيمها. وقد يصادف أن تجد الثقافة الفرعية مناخاً –طارئاً- يساعدها إما على الاستثراء في أوساط المجتمع، أو قدرة مقاومة الرفض.. الأمر الذي يتسبب بكثير من المشكلات؛ وعلى رأسها مشكلة تفتيت المجتمع وتشطيره إلى فرق وجماعات متناحرة، كلاً منها يحاول فرض كيانه، وتوسيع نفوذه.. فعلى مر التاريخ كان دخول الثقافات الفرعية مصحوباً بكثير من العنف، والأزمات، وأحياناً يترتب عنها عواقب وخيمة مثل انهيار كيان البلد المستهدف جراء حالة التشظي التي آلت إلهيا أوضاعه، فشتت صفوفه، وأضعفت قدراته على مواجهة الثقافة الدخيلة. ولو راجعنا حقباً معينة من تاريخنا في اليمن لوجدنا إن استجلاب أيديولوجيات غريبة إلى الساحة الوطنية مثلَّ في حينها تحدياً خطيراً لمستقبل الوطن، وجرّ ساحة العمل السياسي إلى تصفيات واغتيالات، وحروب، وكرس التشطير لفترة معينة.. إلا أن هذه الثقافة لم تصمد طويلاً أمام ثقافة العمل الوحدوي، لأنها كانت ثقافة دخيلة بينما الوحدة اليمنية مثَّلت إحدى أقوى القيم الراسخة في الثقافة "الأم" التي يتحلى بها أبناء المجتمع اليمني. وإذا كانت مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي تعرف بحقب ولادة الكيانات الإيديولوجية، فإن البشرية دشنت الألفية الثالثة بأنماط مختلفة من الثقافات الفرعية-ألا وهي القائمة على خلفيات دينية أو مذهبية- فأصبح الحديث يجري عن (حوار حضارات) و(تقارب المذاهب الإسلامية)، و(حقوق الأقليات)، وغير ذلك من المسميات التي وجدت من يتبناها ويحاول تصديرها إلى مناطق مختلفة من العالم. لقد كان إذكاء هذه النزعات كفيل بإشعال فتيل الحروب الداخلية الدامية، وتفجير الأحقاد، والنزوات الانتقامية المؤلمة؛ حيث أن الثقافات الفرعية-رغم محدودية حجمها-وجدت لنفسها أصول في أماكن أخرى باتت تغذيها في محاولة لتوطينها، ومنحها صفة التأصيل، لكنها في كل الأحوال كانت تصطدم بموروث ثقافي أصيل، ومتوغل في أعماق التاريخ، لم يكن من السهل تجاوزه والقفز على حساباته.. ورغم ذلك فإن هذه الحقيقة لم تمنع من تفجير أحداث وأزمات هنا وهناك تسببت بقلق عظيم للبلدان التي اندلعت فيها. إن مخاوف الخطر الأكبر التي تواجهها الكثير من بلدان العالم اليوم لم تعد تهديدات عسكرية، أو حالة فقر مدقع، أو كوارث صحية، بقدر مخاوف الشعوب المترتبة عن هذه الثقافات الفرعية التي تداهمها على حين غرة، وتستشري مجتمعاتها بسرعة مذهلة لا قبيل لأحد في السيطرة عليها، أو الحد من تصعيد حدتها. ولكن ذلك –في نفس الوقت- لا يعني التسليم بخطر الثقافات الفرعية، ولا يعني أنها قدرٌ حتمي لا مفر من بلائه، بل على العكس إن الشعوب قادرة على كبح جماح هذا الخطر إذا ما راهنت أولاً على خزينها الثقافي الأصيل المتجذر في قيمها، وأخلاقياتها، وعقائدها، وممارسات حياتها اليومية، وثانياً إذا ما سخرت هذه الشعوب وعيها كسلاح تقاوم به هذا الخطر، وتمنعه من مداهمة حياتها الآمنة.. وبطبيعة الحال فإن مسئولية المواجهة تناط بمختلف القوى الوطنية الشريفة، وبشرائح المثقفين والإعلاميين، والناشطين في منظمات المجتمع المدني-فهؤلاء يمثلون صمام الأمان الثقافي القادر على امتصاص واحتواء أي مداهمة من قبل الثقافات الفرعية. كما أن هناك مسئولية وقائية مناطة بالمؤسسات التعليمية والتربوية التي هي وحدها القادرة على تحصين الأجيال بالقيم النبيلة، وبمبادئ التآخي والتكافل الاجتماعي، والتعايش السلمي الآمن.. فهذا اللون من التنشئة يمثل أهم ضمانات المستقبل لمجتمع ينعم بالسلام. |