المؤتمر نت - لرمضان في اليمن خصوصية ومذاق ونكهة غير تلك التي اعتاد عليها الناس طوال أيام السنة. فمظاهر الحياة العامة تتبدل وتتغير ابتداء من تغيير الحالة الزمنية، وانتهاء بالأهازيج، والمسامرات، مروراً بتغير ساعات الدوام الرسمي العام، والخاص، والأكلات الشعبية، والزيارات الأسرية، وقراءة القرآن والكتب الدينية.

المؤتمرنت-استطلاع/-عارف أبو حاتم -
رمضان في اليمن.. تميز وجمال وحسرة

لرمضان في اليمن خصوصية ومذاق ونكهة غير تلك التي اعتاد عليها الناس طوال أيام السنة. فمظاهر الحياة العامة تتبدل وتتغير ابتداء من تغيير الحالة الزمنية، وانتهاء بالأهازيج، والمسامرات، مروراً بتغير ساعات الدوام الرسمي العام، والخاص، والأكلات الشعبية، والزيارات الأسرية، وقراءة القرآن والكتب الدينية.
ربما يكون لشهر رمضان مذاقة الخاص في كل بلاد المسلمين، لكنه في بلاد اليمن أشد اختلافاً وألذ مذاقاً.
فاليمن اعتادت -عين الغريب- فيها على رؤية المختلف: من الملابس والأزياء الشعبية التي تتنوع أنماطها على طول البلاد اليمنية، إلى الفنون المعمارية التقليدية، إلى الأكلات الشعبية، إلى طبائع الناس الأليفة والجذابة.

إكرامية رمضان
تكون أيام الأسبوع الأخير من شعبان فترة توتر، وقلق. كل أرباب البيوت يفكرون (بصرفة رمضان). فالمتطلبات كثيرة: الأكلات متعددة ومتنوعة، الحلويات تزداد شعبية. القات لا بد منه في كل ليلة، وأكبر من ذلك كله (كسوة الجهال)؛ فالكسوة تركها الرجال، والنساء منذ زمن، وبقيت حكراً على الأطفال، الذي يصعب إقناعهم بعدم شرائها.
الكبار يقولون متذرعين:(العيد عيد العافية).
ويأتي العيد بقلق إضافي (صرفة العيد والعوادة، وحلويات العيد)، وأصبح عرفاً سائداً في اليمن أن يتسلم الموظفون- خصوصاً في القطاع الخاص- راتب شهر دون مقابل يسمى (إكرامية رمضان).

رمضان بجنسية يمنية
ماذا يحدث في شهر رمضان في اليمن؟
افتتح الإجابة عن هذا السؤال بحكايتين طريفتين. تقول الحكاية الأولى: إن امرأة سورية –حديثة العهد باليمن- اتصلت بها صديقتها اليمنية في الثانية بعد منتصف الليل، فتعجبت الأولى من هذا الاتصال المتأخر، وسألت صديقتها اليمنية: شو سهرانة لهلا!. فردت اليمنية ببرود (رمضان!!). لم تفهم السورية معنى رمضان فأصرت اليمنية عليها أن تفتح نافذة بيتها وترى الشارع اليمني. فلم تصدق السورية ما رأت. وفي اليوم التالي أخذتها صديقتها اليمنية في نزهة استمرت حتى بعد المنتصف فقالت السورية: اليمنيون يقلبون سنة الكون. الليل نهار، والنهار ليل.
أما الحكاية الثانية والأكثر طرافة فتحكي؛ أن مهندساً –حديث العهد باليمن- يعمل في عدن- خرج إلى الشارع في الصباح الباكر يقود سيارته، فلم يجد أحداً فرجع مسرعاً يصرخ بصديقه اليمني: عبدالله .. عبدالله.. حرب .. حرب. الشارع ما في أحد، حاول عبدالله إقناعه دون جدوى. فالشارع فارغ تماماً الناس نائمون صيام؛ إضافة إلى حر عدن الشديد.
وقرب أذان المغرب أخذ المهندس البريطاني يتجول بسيارته. لكن تدافُعَ الناس وحركتهم السريعة قبيل الأذان عزز قناعته بوجود حرب عدن، فقرر العودة إلى منزله. وبينما هو في طريق العودة سمع (مدفع رمضان) فتدافع الناس أكثر، فدخل بيته وهو يصيح عبدالله.. حرب حرب. صفارة الإنذار، الناس تهرب، أنا سمعت صوت قذيفة.
هذا نزر يسير مما يحدث في رمضان اليمني، المختلف عن رمضان في بقية الشعوب. ونريد أن نأخذ 24 ساعة رمضانية في حياة اليمنيين، لكن من أي الأوقات نبدأ. فرمضان اليمني أشبه بحلقة دائرية لا تدري أين نقطة بدايتها.
ولتكن نقطة البداية ساعة الإمساك عن الأكل والشرب، فبمجرد سماع صوت (مدفع رمضان) ينتهي الزمن المحدد لوجبة السحور، ويكف الناس عن الأكل، والشرب، ويتوجهون إلى صلاة الفجر، وبعد الصلاة يغط الجميع في نوم عميق، وتخلو الشوارع تماماً. الوجوم يسيطر على الشارع اليمني بأكمله؛ فتبدو المدينة كساحة انتهت فيها المعركة.
وعند العاشرة صباحاً تبدأ ساعات الدوام في القطاعين العام والخاص، وتبدأ حركة الشارع تدب، والنشاط .تفتح النوافذ أجفانها، ويخرج أرباب البيوت للتسوق. الرجال يشترون أشيائهم الرمضانية، والنساء في البيوت يصنعن وجبات متعددة. والجميع يعرف أنه ليس سوى جوع الصائم يجعلهم يتخيلون أنهم سيلتهمون الدنيا بما حملت.
أحدهم قال لي أن الجوع أشتد به فقال، وهو يتضوع: ( يا ليت صنعاء فطيرة والبحر زَوْم، وقاع جهران ملوجة واحدة).

موسم مختلف
هذا عن الشارع، فماذا عن المكاتب الرسمية، ودوام العاملين فيها؟
قال المواطن حسين عبدالله النهمي – مختصراً الحكاية: ( يفترض أنهم يكرموا الكراسي "ما بش" غيرها في المكاتب).
فرمضان لدى الموظف الحكومي هو موسم للعبث والإهمال والغياب، يحضر قبيل أذان الظهر ، وسريعاً ما ينصرف للصلاة، ثم يعود، وهو يتمتم بينما أصابعه تراقص حبات المسبحة، وهي نفس الأصابع التي تراقص خزينة الدولة، وجيوب خلق الله طوال العام.
يجلس وراء مكتبه. وبقليل من النشاط يُصِّرف بعض الأمور مصحوبة بابتسامة مجانية، ما تلبث أن تنقلب إلى وجه عبوس. ينظر إلى أصدقائه ويقول ( قد هو وقت يا جماعة.. رمضان مش حق عمل).
ونموذج رائع، ذلك الموظف الذي قابلته في بداية رمضان. سألته عن المدير، فأعطاني ابتسامة وكتيباً صغيراً عن ( استغلال أوقات رمضان)، وأضاف جملةَ: (المدير مسافر).



وقت الأصيل.. وقت "الفحير"
من بعد صلاة العصر- وحتى وقت أذان المغرب- تكون حركة الشارع في ديمومة، ونشاط. الكل يشتغل، والكل يشتري، والكل يبيع، و(النفس حامض، ورمضان مش حق لَوَكْ).
قليل من الازدحام أمام محلات الملابس. الفوضى تسكن الأسواق الشعبية. الناس يتزاحمون أمام بائع الخضار والفواكه، وأمام بائع الخبز، والحلويات، وأمام بائع المشروبات. وتبلغ ذروة الفوضى أمام المقوت.
النفوس تتهافت على أنواع الخبز، والحلويات، واللحوح، والكفتة، والكنافة، والسنبوسة، والباجيا، والبسبوسة، والشعوبية، والرواني، والبقلاوة. أما المشروبات فتبدأ ازدحاماً من الشعير إلى الليمون والزبيب المنقع، والكركديه، والفيمتو، وعصير البرتقال.
ويظل سوق القات ملك الفوضى، بلا منافس، ويبقى المقوت مثل أمين الصندوق. الموالعة يتهافتون عليه كأنهم ينتظرون رواتب سنة.
ومع قرب موعد أذان المغرب يعلن الشارع أن الفوضى قد بلغت الذروة، ويعلن الصائمون أن الصبر قد بلغ فيهم حداً لا يطاق- فإياك إياك .
إياك أن تتشاجر مع أحد، فليس هناك من عنده نَفَس في الصبر عليك، فلا وقت للعتاب، ولا وقت للنقاش، حتى إشارات المرور لا وقت لديها للتنظيم. يختلط الجميع في جولة واحدة: السيارات والنساء، والرجال، والأطفال، والشيوخ، ورجال المرور!!
هذا المشهد العبثي الذي يشبه ساحة معركة فاصلة بين طرفين، يتبدد بعد أقل من ساعة؛ فالجميع يذهبوا لتناول وجبة الإفطار، وُيترك الشارع فارغاً، إلا من المشردين من البشر والقطط والكلاب.
وبمجرد زيارة تقوم بها إلى قسم الشرطة، وإدارة المرور تعرف ماذا حدث في وقت الأصيل:
جماعة من الناس اشتبكت مع أخرى- بسبب القات- وسيارات تصادمت مع بعضها بسبب السرعة، والعبثية، ومواطن طعن آخر بسبب (حبة سنبوسة) وشاب ضرب عجوزاً بسبب ( واحد ليم) ورجل طلق زوجته بسبب (الشفوت)، وطفل تضارب مع امرأة شحاذة بسبب عشرة ريال، ومكنس أخذ المكنسة ليضرب صاحب محل لأنه أغلق الباب على إصبعه، فثار أحد أصحاب القضايا وطعن المكنس.
وأطرف المصائب أن صاحب قضية أطلق النار على محاميه لأنه يماطل في قضيته.
أحد الظرفاء سألته: ماذا يحدث وقت الأصيل؟ فقال: قلي ماذا يحدث وقت الفحير؟

استئناف الحكمة
ما إن ينتهي وقت الإفطار وتشبع البطُن، وتذهب (النفس الحامض) يستأنف اليمنيون حكمتهم في التعامل: الأخلاق واسعة، والابتسامات بالمجان. سوق القات يستأنف الفوضى مجدداً، لكنه سرعان ما يهدأ؛ فالناس يذهبون للتخزين مصطحبون معهم القات، والماء البارد، والشعير، والببسي، ويكون في انتظارهم الديوان المبخَّر، والتلفزيون، والستلايت، والكتب الدينية. وعادةً ما يوزعون أوقاتهم على أربع فترات: الفترة الأولى الحّش على الحكومة. والمعارضة والفترة الثانية، وفي الثالثة الحَّش على الفضائيات العربية، وبرامج المسابقات الرمضانية، وتخصص الفترة الثالثة لقراءة الكتب الدينية، والتذكير ببركة شهر رمضان، وعظم الأجر فيه.
أما الشارع فيكاد يختنق بالباعة المتجولين، والمتسولين، والنساء، وقليل من الرجال، والشباب. شوارع المدن تمتلئ بالإعلانات التجارية، وفي معظمها إعلانات تقول (تخفيضات مذهلة، وجودة فاخرة، وموديلات حديثة، والدَّين ممنوع) وكلها (حركة نص كُم)- كما يقال-
ونفس الحركة يضع صاحب المحل إعلاناً في الواجهة – أحياناً يكون حجم الإعلان أكبر من الواجهة- ويكتب فوق كل قطعة سعران الأول مشطوب- علامة على أنه السعر القديم، والثاني سعر أقل منه، وهو السعر الجديد.
المواطن المستهلك وصاحب المحل يعرفان أنها كلها (حركات).
أصحاب المحلات قالوا أن همهم شيء واحد، هو أن يدخل الزبون المحل، يختار بضاعة معينة (وبعدين سهل. حنجيبك، يعني حنجيبك).
أحد أصحاب المحلات قال: "المهم تدق للزبون أخلاق، وتصرف له هدرة، وتأكد على أنك ستبيع بضاعتك بهذه الطريقة".
وصاحب محل آخر قال: نجد سهولة في إقناع النساء، والشباب بالشراء. أما إذا كان الزبون (شيبة) فهو بالتأكيد (عَرِز) لا يخرج منه شيء.
وصاحب محل آخر – أيضاً- قال: "أنا أعرف أنه لا توجد تخفيضات، لكن المهم قدرتك على التعامل مع الزبون".
بعض أصحاب المحلات يحددون سعراً محدوداً لأي قطعة في المحل، وعند فحص هذه القطع تجدها رديئة من حيث الجودة، أو قديمة من حيث الموديل.
فأصحاب المحلات يعتبرون رمضان موسماً لتعويض دخل السنة كاملاً، وتزداد أسعارهم اشتعالاً كلما اقترب منهم موظفو الواجبات، والضرائب، وجمع الزكاة.
إحدى النساء قالت معبرة عن ارتفاع الأسعار في رمضان ( أنا أكسي الجهال في شعبان).
وأخرى قالت (هذه السنة سنة الجن. كل شيء غالي وما قدرت أشتري شيْ).
أما تلك الفتاة فقد عادت إلى البيت بنصف كسوة (تنورة فقط).

حراج .. مول
تلك الرائحة المميزة لمحلات الحراج، هي المخدر المشروع للفقراء، والبسطاء، وهذه المحلات هي أضخم مركز تجاري يرتاده ذوا الدخل الميسور، وكل شيء بسيط هنا، فلا المحلات تضع إعلانات على أبوابها، ولا الناس يتزاحمون. "الأخلاق ما شية على سِنَّة ورمح".
يأتي المواطن العادي مصحوباً بزوجته، وزوجته مصحوبة بكتيبة من الجهال. يتوزعون داخل الحراج، كل واحد ينقي حسب ذوقه.
وعند البوابة يكون الملتقى ويكون الحساب، وتكون الحسرات أيضاً.
تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 02-ديسمبر-2024 الساعة: 12:45 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/4242.htm