قراءة الدهشة في مقامات العواضي (1-2) ·· في هذا الزمن الإبداعي الصعب مازال ثمَّة من يحاول أنْ يؤسس للقصيدة عرشها ، وحضورها ، وأنَّ ثمَّة – مازال – من يزجي للقصيدة بهاءها ، وإيناعها بعيداً عن حصار الشعر المجدور ، والشعر المستنسخ ، والشعر المخصيّ. وفي الزمن الصعب الذي يموت فيه الشعر ، وينتحر الشعراء ؛ لازلنا نرى فرساناً يحاولون أنْ يعيدوا للشعر بريقه المسروق ،ومن بين أيديهم تفزُّ القصيدة ، وتنتفض من موتها ؛ لتُونعَ ؛ ولتهدي لليباب بشارة السؤال: " وإذا القصيدة أينعت "(1) " فأيّ موت باردٍ يدنو" (2) وأمامنا الآن ، هاهو "أحمد ضيف الله العواضي " أحد الفرسان الذين يكتبون القصيدة في زمن احترفت القصيدة فيه " البغاء" أوهي صارت "خنثى" تلعب دور المهرج الذي رقَّع جسده ، وثوبه بمختلف الألوان فلم نعد نعلم: ما جنسه ، أو هوِّيته ؛ ولكنَّنا مع فارس نظير " العواضي" نحن أمام نص يتحرَّر من استفالية النص الحديث الذي يرسف في ظله معظم شعرائنا. أمام نص يحرّر اللغة من لزوجة الرتابة ، ومن التماهي الشديد في العقليَّات ؛ باستيعابه لشروط التأصيل الإبداعي المتماس مع الشاعرية القائمة على " الشعر" كجنس أدبي له خصوصيته المستمازة عن غيره ، ومع "العواضي" – الشاعر – نحن أمام ملكة – بفتح اللام- لها القدرة على أن " تلعب على جدليَّة الداخل ، والخارج بمهارة" وتؤسِّس الكون الشعري الخاص بصاحبها ، دون الاعتماد على " كليشهات" جاهزة ينقلها الشاعر من وعي الخبرة القارئة ؛ من أجل بناء عالم ذات لغة مكشوفة الأبعاد . إنه يرفض اللغة الشعرية الجاهزة: - " من أين لي لغة بلون الماءِ كي أتجاوز المعنى وأدخل في تفاصيل المفاجأة الأخيرة " ؟ (المقامات) - " أصعد شجونك كي ترى بلداً يمرُّ وخلفه الآهاتُ" - " خبأت حزني في " سجنجلةٍ" (مواقيت) وبعضي في إناء الوقتِ" - " أيها الموت في " لابواتيه" كيف نجوت من الموتِ" (باتجاه السمح) ثمَّة شيء من كسرٍ لألفة اللغة التي تعوّدناها في كثير من قراءاتنا الشعرية ، وتجاوزٍ لرتابة الصور التي اعتدنا أن نقابلها في كثير من الشعر . صاغها شاعرنا ، وجعلها في قيم جماليَّة تخلب اللُّب باستخدام تراسل الحواس تارةً كما في نحو " لغة بلون الماء" أو " التجسيد" في نحو " اصعد شجونك" ، أو التشييء في نحو" خبأت حزني " أو بالاستعارة التشخيصية نظير: "أيها الموت كيف نجوت من الموت" وهاهنا تقنية فائقة الجمال حيث شخَّص الموت ، ثمَّ قابله بتشخيص آخر من جنسه ، بإكساب الأول صفةً أعلى هي نوع من القوّة أو المراوغة بجعله يتفّوق من خلال دال " النجاة" بالرغم من اتحادهما معنى ، ونحو هذه القيم لاشك انها تساعد على استقواء الإثارة ,والمتعة لدى القارئ. وثمة كثير من هذه القيم - سوف نتعرض لبعضها - لاحقا - بثَّها الشاعر في أرجاء نصوصه ، وكلها تعتمد على تحرير اللغة من حقيقتها إلى الهامش ، بما يملكه -هذا الهامش - من فضاءات جمالية تتعدد ، وتتباين . ·· ومن خلال ثمانية نصوص هي مجموع قصائد الديوان ، ألفينا - كيف أن الشاعر يركِّز على بعض الصور المجرَّدة المتصلة بالانفعالات النفسيَّة ، والإنسانية على وجه العموم نظير : " الموت ، الحلم ، الحزن ، الأماني،الروح ، الوهم ، الزمن ، الوقت ، العدالة ، الهزيمة "…وغيرها ؛ ليجعل منها عجائن تتداخل وتتلازم : ايحاءً ، وتنويعاً ، وتوالداً ، وتوحداً ضمن سياق الهم العام الذي رصدته انفعالات الشاعر ؛ بالإعراب عن الوقر الجاثم في الخاطر ؛ بحيث أضحت "ثيمات" من نحو :"الحلم ، الشجن ، والموت ، والأماني ، والعدل"… هي مؤسِّسات رئيسية لمعظم النصوص ضاعفت صورها من بروز القضية الأم ، وسطوعها على المستوى الوجداني لقارئ الديوان ، ودون اللجوء إلى لعبة التغميض السائدة في أشعاركثيرة كثيرة ؛ دون الانجرار - كذلك - إلى اللغة المكشوفة ، تلك التي تُستهلك من أول قراءة. إذ يصح أن نقول بأنها لغة تتمرد على قراءة التعجل بدليل أن نصّاً من نظير "مقامات الدهشة" قد لا تستطيع أن تلج إليه من أول قراءة عابرة : "أرى غسقاً تدلّى ، أم ضفائرها الكثيفةِ ؟ حمرة الياجور ، أم شفة المدينةِ ؟ " إننا –هنا – أمام صورة "بديعيَّة" سماها القدماء : "تجاهل العارف" ، وتقع تحت غرض بلاغي هو " المبالغة في المدح " وتعطينا القراءة الأولى إفتراضيةَ أنَّ المقصود بذلك هو " امرأة " لوجود ما يدل عليها وهو : ضفائرها الكثيفة المشبهة بالليل ، ولكن الوحدة الثانية تضعنا أمام صورة تُبهم ما سبقها لتصل بنا إلى تفسير يعدل من التأنيث الحي ، إلى التأنيث الجامد . ونحو هذا نجده في بقية أجزاء النص..وكذلك نحن أمام نص " أسنة القربى " حيث يضعنا الشاعر بلغته أمام أكثر من قراءة: فالأولى تعطينا هذه الافتراضَّية : اتجاه الخطاب إلى العربي - بخصوصيَّة إحدى البلدان - التي تتنكر لأواصر القربى ، والأخلاق والدماثة العربية فيتسبب في ذهاب ريحه ، وصيته بسبب من ذلك تهب عليه الأسنة من أبناء عمومته ، وإخوته في الدم فلا يجد حينئذ لمن يشكو ، أو يبثّ حزنه وهمه ، وبالرغم من ذهاب صيته والبلاد إلاّ أنه يظل يردد : "أنها أنقى من الماء المعلق في السماء " - أما الافتراضية الثانية فتتمثل في اتجاه الخطاب إلى الوطن العربي الواحد الذي يتنكّر لماضيه ، ولا يعمل لغده ؛ فتهب عليه الأسنة من كل حدب ، وصوب ، وتتكالب عليه ، وإذا ما قيل له أن كل شيء قد ذهب ، بما في ذلك الأرض هتف : "إنها أنقى من الماء المعلق في السماء " أما " القربى "-هاهنا – فليست سواها الصلة الترابية الآدمية لا صلة الدماء . وقد أعطى أحدهم قراءة ثالثة أعطاها بعدا محلياً ، وآخر أعطاها بعداً ذاتياً طرفها الأول الشاعر نفسه. ·· ولنقرر، ونحن نقرأ "العواضي" بأننا أمام شاعر ذي قضية؛ همه الأكبر هو إبراز هموم عامة معاصرة عرض لها من خلال ذاتية تجلى فيها الرفض ، والسخرية ، وتعرية الواقع وكشفه . فإنْ يقرِّع ، ويتهكم أحياناً كما في نحو نص "باتجاه السمح" أو "بشر كالحصى" ؛ فإنه في ذات الأوان يحاول أن ينصح ، ويذكِّر ، ويدعو إلى تجاوز الآلام ، والحث على النهوض من الكبوة المزمنة : "وهل يخرج السمح ثانية من جنوب الجزيرةِ ؟ من فكرة في التهائم ، من شامخ في"الطيالِ" المنيعة . من زهرة نبتت في خيال المواسمِ من زامل في الصباح المدرجِ من بعض أمنية خبأتها البلاد السعيدةِ " وقد يحاصره الحزن ، والقنوط فيتحول به الشعر إلى رثاء الأمة بأكملها، باستبعاد فكرة أن تقوم مرة أخرى ، بالتجمد تحت سنابك حكامها ، وخرافاتها ، وبالرضى ، والقناعة بما يجود به هؤلاء الحكام: بشر كالحصى وطنيون حتى الثمالة لكنهم أسرفوا في ثمالتهم فرأوا كم أسى بالغ في القرى ، ساذج في الأغاني ، وكم حنظلٍ طازجٍ في الرغيفِ وكم قبل باتجاه العساكر..كم أسفٍ جاهزٍ في الرثاء" (بشر كالحصى) ونحو ذلك من القنوط في استفحال الحالة التي وصل إليها الإنسان العربي نجده في "إن جثت الحركات " حيث يصور الشاعر أمة مازالت عند أول السلم الحضاري ، لا تملك من ذاتها سوى شعارات تحاول أن تدخل بها الميدان الحضاري ، ولازالت منشغلة بالكلام ،والحنين إلى الماضي: فلا الركون إلى التراث أوصلها إلى الأمان ، ولا الحضارة الحديثة استطاعت أن تخرج بالعربي إلى ما وراء الخيمة : تلك سيوفنا صدئت من التجويد لا الإدغام أوصلنا إلى بر الأمان ولا الوقوف مبرّرٌ إلا لوصل سلالةِ الأحلام بالأوهام ، والصحراء حلم واحدٌ متكرر النظراتِ …. الخ " وإذا كنا قد قررنا بأن لشاعرنا همه العام ؛ فإن استلهام معطيات هذا الهم من خلال الواقع ظل هاجساً شديد الوطء عليه مادام قد أخذ على عاتقه تحمل هذه المسئولية . وكم هي ثقيلة في زمن لا يستطيع فيه الشعر أن يتجاوز نهدي الأنثى ، أو عينيها الشبقتين . ·· ولقد كان للشاعر طريقته التي يؤسِّس بها هوية النص القادر على تثقيف الشعور ؛ بتوظيف دوال اللغة ، وروابطها لهذا الهدف . إنه -مثلا - يحدد لنصوصه أكثر من ضمير في سياق الوظيفة الإرجاعية لنقرأ -معاً - هذه الأسطر المختارة من نصوص متباينة : "تسقط الكائنات ، وتبقى المعاني على قلق قالها ، وتأبط عمراً من الأمنيات التي ذبلت …." ثم يقول : "أيها الحلم يا عيدنا الأبدي ، ويا مهرجانَ الأماني التي ذبلت ، خذ يدي ملؤها شجن.." (باتجاه السمح) ومن نص "المقامات" : "من أين لي لغة بلون الماءِ كي أتجاوز المعنى " ومن نص "إن جثت الحركات" : "إن جثت الحركات لا مستفعلن يجدي ولا بلد يحبك يا فتى " ومن نص : (مواقيت) " يا أنت يا هذا المدثر نفسه بتراب ذاكرةٍ لجناتٍ من الأعنابِ " ومن نص" أهل يفرس " : " يا أهل يفرس : زلَّ بي قدمي إلى ما ليس لي علم .. " …………. لأعترف بأنني لم اقرأ - حتى الآن -نصوصاً شعرية - حديثةً - لها مثل هذا التنوع ، والتعدد الضمائري كمنجز تقني ينضاف إلى الأبعاد الجمالية الأخرى التي تساعد على الارتقاء بالنص الشعري ، وإغنائه . إن نحو قول الشاعر : " على قلق قالها وتأبط عمرا من الأمنيات التي ذبلت " ماذا سيحدث لو صيغت هكذا:"على قلق قلتها ،وتأبطتُ عمراً الخ..."؟ وبالرغم من أن الوزن الشعري لم يتأثر بهذا التحوير ؛ إلا أن العبارة الشعرية فقدت بعض جمالها الوظيفي بفعل تحويل الضمير من صيغته الغائبة(قالها ) إلى الصيغة الفاعلة (قلت) ، ثم ما نتج عن ذلك صوتياً من تحريف إيقاعي (لاوزني) في "قلت" التي لم تتناسب مع الأصوات في: "على قلق " ثم "تأبطت"بما نتج عنها من ثقل بفعل التقارب الشديد للوحدتين (ط /ت) وهذا على عكس الصياغة الأولى التي تتوافق مع أصواتها ، ومع ما قبلها هكذا : " عَ لَ ى قَ لَ قٍ قَ ا لَ هَا وَ تَ أَ بَّ طَ " .لنتأمل في حركة "الفتحة" الصوتية التي سادت معظم الأحرف ، ثم في الثلاثة الأحرف الصائتة في " على / قا / ها " وما نتج عن هذه الأحرف من إيقاع أريحي للقارئ ، بما يعني أن اختيار الشاعر لضمائره لا تأتي اعتباطاً ، وإنما تبعاً للذائقة الشعرية لديه ، وهذا هو نفسه الذي يجعله ينوع الضمائر ضمن سياق النص الواحد - كذلك - ؛بتوظيف هذه الضمائر على النطاق الشعوري ، وهو ما لا نجده لدى الكثير من الشعراء الذين قد يلجئون إلى نوع محدّد من الاستبطان النفسي ؛ بما يجعل معه التنوع متعباً ، بل وغير مجدٍ خوفاً من تشظي النص. ولست أرمي هنا إلى تنوع الضمائر على مستوى السرد الشعري والتي تأتي كحاشية نحو قول إحداهن : " أختطف الورق البادي في شجر الأنواء اكتتب النار على شفتيك اكتتبُ السحب الموقوفة "(3) فالضمائر في"شفتيك/ الموقوفة " هي تنوع لا يخلو منه أي نص من النصوص ، شعراً كان ، أو نثراً وإنما ارمي إلى الضمائر التي تكون الوظيفة المرجعية لها واحدة وهي ذات الشاعر . ولنمثل لذلك من قصيدة " خماسيات الملك.." حيث نأخذ هذه المقاطع الثلاثة : "وإذا الغيوم تعثرت ، والأرض القت ثوبها ، وتفككت ….. ثم قوله : "خبأت حزني في سجنجلةٍ وبعضي في إناء الوقتِ …. ثم قوله : أنخْ شجونك بين قافيتينِ اقصى الحلم حلم غير ذي زرع ….الخ" إننا- هنا - وباعتماد المرجعية الوظيفية أمام ثلاثة ضمائر : · أولاها : ضمير غير مصرح به ، وهو الضمير الذي نحسه من خلال الرواية في المقطع الأول. · ثانيها : ضمير المتلفظ ( أنا ) : خبأت /حزني/ بعضي / · ثالثها : ضمير المخاطب ( أنت ) أنخ / شجونك / وجميع هذه الضمائر ذات مرجعية واحدة هي الذات الشاعرة الموجودة في "خبأت " وليست ثلاث ذوات منفصلة عن بعضهاالبعض؛ وهو ما يفسر حديثي عن ماهية التنوع المقصود في نصوص الشاعر . ·· وكتكريس لهذه الهوية التي يحتذيها " العواضي " لا يفوتنا أن نتوقف عند ميزة هامة تكاد تكون طاغية على معظم نصوصه ؛ وتتمثل باتخاذ لازمة سياقية تتكرر في جملة ، أو عبارة شعرية عند ابتداء ، أو انتهاء كل مقطع ، واستخدمت هذه اللازمة في ستة نصوص من المجموع الكلي لقصائد الديوان البالغة ثمان – كما أسلفنا – أما العدد الكمي لهذا التكرار فيتباين ، أو يتفاوت من نص لآخر ، ففي نص " باتجاه السمح " تتكرر هذه اللازمة لست مرات ، وواقعة منتهى كل مقطع ، ويمثلها جملة " البلاد السعيدة " وفي نص" إن جثت الحركات " يتكرر العنوان كلازمة لثلاث مرات ؛ متصدرا ثلاثة مقاطع كبرى(4) وتأتي لازمة " آه ..بعد آه ، بعد آه " لـ( خمس مرات) في نص " مواقيت " آخذةً نهاية المقاطع . ولا يفوتنا هنا أن نومئ إلى ما تحمله هذه اللازمة من تنغيم صوتي كنوع من الإيقاع المفرد الذي صاحب كل " مورفيم " بالرغم من اتحاد الألفاظ الثلاثة ، إلا ان هذا التنويع إنما جاء بسبب تعدد الحركات ، أو الوحدات الصوتية الصغرى بإعطاء اللفظ إيحاءه المصاحب للدلالة اللفظية المنطوقة . وإذا ما استعرضنا بقيَّة الجمل ، أو العبارات المتكررة سياقياً في نصوص " العواضي" سنلفى بأن أكبر عدد كمّي لهذا التكرار احتواه نص " بشر كالحصى" بظهور العنصر اللساني " بشر كالحصى" لـ( ثمان) مرات متصدراً مقاطع القصيدة. يجيء قبله عدداً ، وتصدّراً نص " أسنة القربى" بلازمة : " ذهبت رياحك كالآتي: - ذهبت رياحك والبلاد تنكرت حجراً - ذهبت رياحك والبلاد ترمم الرؤيا لليل عابرٍ - ذهبت رياحك والبلاد تعض معصمها أسى - ذهبت رياحك ، والبلاد تمر أسراباً إلى ما لا تؤديه - ذهبت رياحك ،والنجوم يخونها الآتي - ذهبت رياحك ، والبلاد .., وأنت تقسمُ .." والملفت هاهنا أن كل " لازمة " أخذت تجر وراءها سيلاً من الدوال ؛ بخلق مناخات توالدية تتعدد من خلالها الرؤى ، وطاقات الانفعال فها هي" البلاد "مرة تتنكر ،ومرة ترمم الرؤيا ، ومرة تعض معصمها ، ومرة تمر أسراباً . ولو كان الشاعر قد استغنى عن البياض الممثل بالحذف في آخر عبارة : " ذهبت رياحك والبلاد …. " بجعل " البلاد " تذهبُ و الرياحَ لكنا الآن أمام صورة تقنية ممتعة ؛ ذلك أن دوالاً من نظير " التنكر ، وترميم الرؤيا ، وعض المعصم ندماً ، ومرور البلاد أسراباً …يفضي بها آخراً إلى السقوط ، والفناء : بفناء ريح أبنائها ، وحضارتهم . وما فعله الشاعر – هنا – هو أن وضع نقاطاً تدل على الحذف مما يوهم بتخيل سياق لغوي ما .. يمكن وضعه في هذا البياض ، وبحذفه يُزال هذا التوهم: " ذهبت رياحك ، والبلاد . وأنت تقسم أنها أنقى من الماء المعلق في السماء " وإذا كان " العواضي " قد تميز بنحو هذه النصوص التي تعتمد على دليل رابطي ، أو لازمة سياقية عند ابتداء ، أو انتهاء كل مقطع ؛ فإن ذلك مدعاة لتدعيم هوية النص الذي يتموقع فيه الشاعر ؛ وإن لم يكن السابق لهذا المنجز الفني على مستوى الوطن العربي ؛ فإن له "قصب السبق " على المستوى الوطني ، والمحلي على الأقل. ··الأنثى في شعر العواضي : لم يخطر لأحد ربما ، أن يتساءل : أين الغزل في شعر "العواضي" ؟ وأين تقع " الأنثى " منه ؟ يحدُث كثيراً أن يمسك الواحد منا بديوان شعر بحثا عن" الغزل " ورائحة الأنثى ، فإذا لم نجد فيه بغيتنا تركناه إلى غيره ؛ ولهذا نجد أن ما مجموعه 95% من الأدب ، شعرا ، أو نثرا لا يتعدى النطاق الحسي للغريزة ، والجنس ، أو الأنثى كهاجس أولي ، وأساسي للشاعر ، أو الأديب - بوجه عام - والقارى كذلك ، مما يجعل الأديب ، أو الشاعر الجاد والملتزم بقضايا أمته ، أو المنشغل بالهم الإنساني العام للأمة ، والفرد في موقف التحدي ، والبحث الدءوب عن الوسائل ، والأدوات الفنية التي يشد بها القارئ ، ويجبذه إليه بعيداً عن مخاطبة الغريزة الجنسية لديه ، وقليلون هم أولئك الذين استطاعوا أن يزرعوا قارئا جادا همه الأول هو البحث عن القيم الجمالية المتلازمة مع العبارة ، والفكرة المنشغلة بالواقع الحسي الذي ينـزع دوماً إلى التجدد ، والحرية ، واكتشاف القيم الإنسانية ، والجمالية في هذا الإنسان ؛ بحيث لا يتحول الشعر إلى نوع من" الفياجرا " ووصيفا دائما في دور العاهرات .. وللحقيقة نقول بأن"العواضي" قد استطاع أن يصرفنا عن سؤال من نحو : " أين المرأة " ؟ ؛ ذلك أنه أسس نصوصه وفق بنائية شعرية تتحرك ؛ لتدهش ، وتنسرب بعفوية إلى القارئ متجاوزة غريزته ؛ باستلهام انشغالات الواقع ، الذي قدم له بلغة تخيلية تُوائم ما بين الحسي ، والمجرد من الصور المعاصرة التي مزجت في بعضها بين ثقافتين : الماضي ،والحاضر، وتقديم كل ذلك من خلال ذاتيةٍ مشاركةٍ باستغلال كل ما أتاحته اللغة من أبنية ، و مجازات وتقنيات حديثة كالرمز ، والقناع ، والتناص ، والانزياحات ، والتراسل ، والتماهي ، والأنسنة ، ولا مرية بأن القارئ - عندئذ - هو في غنى عن وضع شروط مسبقة لقراءاته ، ما دام يشبع حاجته وذائقته من خلال نص يقدم له وجبة كاملة تحمل في ثناياها عناصر نشاطه ، وبنائه الجسمي .. وقارئ " العواضي " لن يعدم - كذلك - وجود "الأنثى" ، ولكنها " أنثى " تحمل قيمة جمالية معرفيَّة متعلقة بالحسيَّة الجماليَّة والوجدانية لا الحسيَّة الجنسيَّة . وإذا كان الشاعر ، أي شاعر-لا يستطيع الاستغناء عن شرط " الأنوثة " مهما حاول أن يتوارى ، أو يراوغ ؛ فلأن القصيدة نبتت في الأزل في رحم أنثى ، ومنها تكاثرت ، وتفرعت. ولكن هل هذا الشرط لوحده كافٍ لأن نجعل من هذه الأنثى شيئا مبتذلاَّ ، بحيث نفقدها - بفعل ذلك - عوامل خصبها ، وإيقاعات أنوثتها ؟ كلاّ .. لأن الشاعر : أي شاعر قادرٌ على أن يكسبها هذه الخصوبة ، من خلال جعلها رمزاً لكل مشاهداته الجمالية ، والنفسية : ·" أرى غسقا تدلى ، أم ضفائرها الكثيفة ؟ حمرة " الياجور " ، أم شفة المدينة " ؟ ……….. ·حورية من الأحجار ، والعتبات والخشب المقفى " غرفة القليس " شامة خدها المصقول أم عتب السماء ؟ …………. ·أجمل الأسماء " سمسرة النحاس " وأجمل الفتيات : واجهة المدينة فهذه هي "الأنثى" أو"المرأة " في شعر "العواضي" لا نكاد نحسها إلا عرضاً ؛ لأنها لم تكن هدفا للشاعر ، أو جوهراً . ومع ذلك ، ولعدم الاستغناء عنها فقد استعار الشاعر بعض مفاتنها من نحو : الشَّعر ، الشفة ، الشامة ، وخلع هذه المفاتن على المشاهد الحجرية التي أثار مرآها استدعاءات وجدانية محضة ، وحتى يعمق من هذه الرؤية النفسية ، فقد كانت المرأة أحد المقومات الفنية لإبراز حسية ما يراه من جمال اختلط فيه الحسي ، بالروحي أو الصوفي، فكانت " مقامات الدهشة " : " تبسَّم وجهها المعجون بالتقوى اعتلت عرش المحبة والدعاء عصية التفسير . شرشفها فضاء الله .. " وإذا ما قمنا بحصر عنصر " الأنثى " - وما في حكمها - في شعر " العواضي " سنجد المعجم الآتي : · " ضفائر/ شفة/النساء/حورية/خدها/الفتيات/شرشفها/ خصلاتها/ وجهها (مقامات الدهشة) ·" النساء / امرأة الخيال / عبلة " (إن جثت الحركات) ·نساء الليل / ضفائرها (خماسيات الملك الضليل) · ضفائرها (يأهل يفرس) ·ضفائرها / جبهتها (أسنة القربى) وإذا كانت هذه العناصر الألسنية المتجهة إلى الأنثى قد استخدمت بعضها ضمن سياق فني ، وأخرى ضمن سياق قاموسي محض ؛ إلا أنها – جميعا –جاء بها الشاعر عرضاً لخدمة جوهر ، وهي عناصر بسيطة – كما نرى – بعضها تكررت نحو " الضفائر " مما يجعلنا نعتقد بقدرة الشاعر اللغوية الذي استغنى عما لا يمكن الاستغناء عنه لدى آخرين ، فاتى بما يصعب إتيانه. |