م. محمد سعيد حميد -
أزمة المياه ومعالجات تفاقم الأزمة
يعاني 852 مليون إنسان الجوع المزمن في العالم. الذي يتوقع زيادات جديدة في عدد سكانه بحدود ملياري نسمة بحلول 2030م ولا تبدو تلبية الاحتياجات المباشرة لتلك الأعداد المتنامية إلى الغذاء وخفض معدلات الجوع ، هدفاً ممكن ما لم تترافق معها زيادات كبرى في كميات الغلال الزراعية والإنتاج الحالي.
والحقيقة أن ما تنتجه البشرية من أغذية اليوم يكفي حاجاتها بل ويزيد. لكن الخطر يأتي من حاجتنا من المياه لإنتاج هذه الأغذية. فوضع المياه الحالي على المستوى الكوني لا يسمح إنتاج أغذية جديدة بالتقنيات الحالية.
ويحتاج جنوح البشر الاستهلاكي إلى مزيد من المياه. وإذا علمنا أن إنتاج كيلوجرام من القهوة يحتاج إلى 20 ألف لتر من الماء ، وسندوتش الهامبورجر يحتاج إلى 11 ألف لتر من الماء. والقميص القطني إلى سبعة آلاف لتر. والكيلوجرام من الجبن أو الأرز يحتاج إلى خمسة آلاف لتر. فسندرك أن أزمة المياه الكونية قادمة لا محالة.(2)
وفي منطقة الشرق الأوسط سيشهد مطلع هذا القرن مرحلة صراع على المياه لأسباب شتى, وان وضع المياه في هذه المنطقة والصراع حولها سيكون أعقد من مرحلة الصراع على النفط فيها. وقد عزّز هذا الرأي ما جاء في البيان الختامي للمؤتمر الدولي حول المياه والبيئة والمنعقد في دبلن عام 1992 والقائل “بأن الوضع المائي سينتقل من حالة الوفرة إلى حالة الندرة, خصوصاً في المياه العذبة وسوء استخدامها. كما أشار البيان إلى “إن صحة الإنسان ورفاهيته والأمن الغذائي والتنمية الصناعية والنظم الايكولوجية معرضة جميعاً للخطر ما لم تتم إدارة الموارد المائية العالمية حالياً ومستقبلاً بفاعلية تفوق الإدارات السابقة.
وفي الوقت ذاته أفادت بعض تقارير وكاله الاستخبارات الأميركية التي صدرت في الثمانينات من القرن المنصرم بأن هناك عشر مناطق في العالم مرشحة لحروب بسبب النزاع على المياه العذبة ، على رأسها منطقة الشرق الأوسط (بين العرب واليهود وبين العرب والأتراك).(7)
ويزداد الموضوع المائي في الوقت الراهن تعقيدا وخطورة، ليس بسبب كون المياه سبب الحياة فحسب " وجعلنا من المائي كل شيء حي"(1 ، الأنبياء،الآية 30) ،بل لأنها تصبح في بلادنا نادرة أكثر فأكثر،بسبب تزايد السكان وتوسع الطلب على المياه للأغراض المنزلية والزراعية والصناعية، مما جعلها في بلادنا عنصرا من عناصر قوة الدولة والمجتمع، أي عنصرا سياسياً بامتياز. ويستشهد هنا منذر خدام بكمال أبو المجد القائل"لا أمن عسكري لأمة من الأمم خارج أمنها الاقتصادي، وذروة الأمن الاقتصادي هو الغذاء، ولب الأمن الغذائي ومنتجه هو المياه"(8)
وإذا كانت هذه الأزمة قد بدأت في الظهور في أماكن عديدة في كوكبنا. ومنها بلادنا التي تفاقمت فيها كنتيجة طبيعة ومتوقعة لتراكم جملة من السياسات الاقتصادية المتعثرة. وكذلك الحال ربما بالنسبة للمعالجات المطروحة لاعتمادها على أرقام متضاربة وخيارات محدودة.
فالدراسات التي تمت بالنسبة للأمطار مبنية على قاعدة معلوماتية كما أفهم من القراءات المتوفرة وتوزيع محطات الأرصاد والمحطات المطرية لا تعطي مؤشرات دقيقة لكميات الهطول من حيث الزيادة والنقصان. حيث أنها كما يبدوا مبنية على بيانات لسنوات محدودة.
فإذا أخذنا مدينة تعز مثلا. لا أعرف من أين أتى الرقم الغريب 200 مم كمؤشر لسقوط الأمطار للمدينة. والذي نشر في صحيفة الوسط بتاريخ 15أبريل2006 م. تحت عنوان " أزمة المياه تفاقم مستمر" (5). والأرقام المتضاربة التي وضحت في نفس الصحيفة في عدد سابق بتاريخ 22 فبراير2006م تحت عنوان " أدلة في أخطاء الأرقام المعلنة عن المياه الجوفية لحوض صنعاء " (3) تؤكد أن هناك دراسات أقيمت لمشاريع ترقيعية أسعافية آنية.كانت وراء هذه الأخطاء في الأرقام.
وتنشر صحيفة الأيام في عددها الصادر بتاريخ 22 مارس2006م خواطر مائية بمناسبة اليوم العالمي للمياه مشفوعة بخارطة عن متوسط هطول الأمطار في الجمهورية اليمنية تثير الاستغراب أن تنشر من جهة تعنى بالبحوث (الهيئة العامة للبحوث والإرشاد الزراعي - مركز بحوث المياه والموارد الطبيعية - قسم نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد) (6). وكان من الأجدر بالهيئة المعنية أن لا تنشر تلك الخارطة حتى تحافظ على رصيدها في عقولنا وفي ذاكرة البحث العلمي في بلادنا.
الحقيقة أن هناك مشكلة في منسوب المياه الجوفية لا خلاف عليها بسبب عدد من العوامل الديمغرافية ينبغي التعامل معها بواقعية وعدم التهاون أمامها.إما القول بأن هناك تناقص في سقوط الأمطار باعتقادي أنه طرح غير دقيق. وذلك لعدم وجود دراسة مناخية متكاملة في هذا الجانب وعدم وجود تغطية كاملة للجمهورية من المحطات المطرية. وأن وجدت لا تغطي المساحات المطلوبة ولا تخضع للتوزيع العلمي الدقيق. إضافة إلى توزيعها بين جهات عديدة وكل جهة لها أجهزتها المختلفة عن الجهات الأخرى وطرق مختلفة في القياس من حيث الوحدات والزمن وخاصة للمحطات العادية.
وللدلالة على عدم تناقص الأمطار وثبات الدورة المناخية المطرية. يمكن أن نلاحظ إذا أخذنا على سبيل المثال صنعاء وتعز أن قمتي الهطول فيهما لازالتا لم تتغير. وأن اختلفت الكمية من سنة إلى أخرى. إلا أنها ظاهرة طبيعية تزيد سنة وتنقص سنة أخرى لتعود بالزيادة مجدداً وهكذا.
ولمواجهة الطلب المتزايد على المياه في بلادنا،على الأقل في المدى المنظور، ثمة خياران رئيسيان هما: تنمية الموارد المائية المتاحة، وترشيد استعمالاتها.
أما المعالجات المطروحة و(مراهنات وزارة المياه والبيئة على مشروعها الضخم في ضخ مياه البحر الأحمر وإرسالها إلى صنعاء التي تعاني من قرب نضوب مخزوناتها الجوفية من خلال استثمار مليار ونصف مليار دولار في السنوات الخمس القادمة في بناء محطات تحلية مياه البحر وحفر آبار جديدة. بالإضافة إلى وضع الدراسات المهمة في هذا الجانب لزيادة الموارد المائية) (5). أو الحديث عن التعاقد مع شركات في استحلاب الضباب في العاصمة صنعاء الذي يعتبر ضرباً من الوهم وخصوصاً في صنعاء التي يمكن أن تنجح فيها ربما عمليات زرع الغيوم في مواسم الأمطار أكثر من التعامل مع الضباب لأنها منطقة جافة والرطوبة النسبية فيها منخفضة جداً تصل إلى 15 %. وما دون ذلك في بعض الأشهر.
وينبغي الإقرار أن المشكلة الإدارية والاعتداء على الموارد المائية وعدم تطبيق القوانين هي أحد المشاكل الرئيسية. وهناك إقرار بهذه المشاكل على حد تعبير مدير عام المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي المهندس إبراهيم المهدي:( إن المشكلة بالأساس ليست مشكلة مصادر بقدر ما هي مشكلة إدارية وأعتقد أن حوض صنعاء بحاجة إلى ترشيد استهلاك المياه ومنع بعض الزراعات فيه والحد من الحفر العشوائي. فالحديث عن حوض صنعاء حديث عن أكثر من 13 ألف بئر كل منتجات المياه منها تذهب لعملية الزراعة باستثناء ما يقارب من 7% إلى 10% من إنتاجها لمياه الشرب وبالتالي لو أن هناك ترشيداً وفقاً لخطط مدروسة لعملية استخدام المياه والحد من الحفر العشوائي سوف تساعد على حسن استخدام المياه وإيجاد الحلول الدائمة بصورة متكاملة من الترشيد إلى إنشاء الحواجز والسدود حول الأمانة واستغلال الوديان وبعض العيون الموجودة والقريبة حول الأمانة وسيكون لها نتائج كبيرة لمواجهة المشكلة والوضع المائي الحرج.) (4).
إما الاستمرار في الحفر العشوائي والاعتداء على الموارد ، وعدم تطبيق القوانين. فأن ذلك يعني على حد تعبير توشار شاة الخبير في معهد إدارة المياه الدولي( إنها رحلة في اتجاه واحد نحو الكارثة).(2)
ومما تقدم يمكن أن نصل إلى جملة من الاستنتاجات والمقترحات نوردها كما يلي:-
1. تواجه بلادنا وضعاً مائياً صعباً، وتحديداً المدن الرئيسية فيها. فالموارد المائية محدودة، وهي تصبح نادرة أكثر فأكثر بسبب تزايد السكان. لذلك لا بد من المضي قدماً في تنمية الموارد المائية عن طريق بناء السدود والخزانات المائية السطحية، والعمل على ملء هذه الخزانات إلى حدودها التصميمية .كما لا بد من الاستمرار في تنمية رواجع الصرف الصحي والزراعي.
2. بالنظر إلى الإمكانيات المحدودة في مجال تنمية الموارد المائية، فإن الانتقال إلى ترشيد استعمالات المياه، وخصوصاً الانتقال من طرق الري التقليدية إلى الطرق الحديثة، ومن شبكات نقل المياه المكشوفة إلى الشبكات المغطاة، والبحث في إمكانية تغيير التركيبة المحصولية بالعلاقة مع المياه، واستنباط أصناف نباتية جديدة موفرة للمياه،أو تستطيع النمو في المياه المالحة، يمكن أن توفر كميات هامة من المياه.
3. لا بد من تفعيل المراكز البحثية المختصة بالشأن المائي ،وتكثيف الدراسات والبحوث المائية خصوصا فيما يتعلق بتنمية المصادر المائية غير التقليدية،مثل الاستمطار المتعدد الأغراض واستخدام التوربينات الرشاشة في السواحل اليمنية ورواجع الصرف الصحي والزراعي، وحتى تحلية مياه البحر المورد غير المحدود وهو آخر الخيارات الذي ينبغي التفكير فيه في حال حدوث تقنيات متطوره تقلل من تكلفته العالية.
4. من الضروري تطوير إدارة الموارد المائية وتوحيد الجهات الوصائية عليها،بما يقلل من الإجراءات البيروقراطية ويحسن من كفاءتها.وفي هذا المجال لا بد من التشدد في تطبيق القوانين المائية،وردع المعتدين على الموارد المائية، أو يهدرونها بصورة غير مجدية.
5. من المفيد النظر بجدوى استخدام تسعير المياه كوسيلة اقتصادية لتنظيم الانتفاع بالموارد المائية. وخصوصاً زراعة القات. وتشديد الرقابة عليه.
6. ينبغي أن لا ننظر إلى الزراعة بأنها كارثة وتسبب هدراً للمياه. بالرغم من ما تستحوذ به من نسبة عالية (90%) من جميع عمليات سحب المياه العذبة. بل العكس من ذلك أنها حفاظ على بقاء المياه في دورتها الطبيعية وفي الحفاظ على البيئة والغطاء النباتي في ظل استخدام التقنيات الحديثة. وأن الحد من الكثافة السكانية والنشاط العمراني وتخفيف الضغط على المدن الرئيسة بتقليص الهجرة الداخلية إليها وفي مقدمتها العاصمة والتعامل مع الوضع باعتباره كارثة وشيكة الوقوع. هو ما يتطلب العمل من أجله بمثابرة. وإيجاد المعالجات السريعة والجذرية من خلال الاستفادة من الرقعة الجغرافية الكبيرة للمناطق الساحلية والسهلية بتعميرها وإنشاء المشاريع الاستثمارية والإستراتيجية فيها والتي تتطلب إرادة وإدارة قبل كل شي.
7. النظر إلى استشارات البنك الدولي في هذه القضية كإسقاط واجب لا غير وأن اليمنيون هم المعنيون أكثر في نتائج هذه الاستشارات واليمن لديها من الكفاءات العلمية التي تمكنها من إعطاء المعالجات الناجعة.
8. وأخيرا لا بد من العمل على خلق ثقافة مائية لدى جمهور المواطنين تساهم في ترشيد تعامله مع الموضوع المائي. وإشراك الجمهور في رصد الأمطار من خلال التوعية بأهمية رصدها والاستفادة من المتطوعين وفي مقدمتهم الجامعات ومراكز البحوث الذين هم أكثر استخداماً لمعلوماته وحتى المدارس الثانوية في المناطق التي لا توجد فيها محطات رصد. وفتح منتدى في موقع وزارة المياه على شبكة الإنترنيت لاستمطار الأفكار الذي سيضخ إلى أصحاب القرار أفكار متميزة ومعالجات واقعية. وفي هذا المجال يمكن أن يلعب الإعلام الجماهيري والندوات الإعلامية دورا مهما. وقد يكون من المناسب تخصيص حصص دراسية في المدارس على مختلف مستوياتها للتعريف بخطورة الوضع المائي في اليمن.
9. رغم قتامة الصورة العامة فأن الرهان الوحيد المتاح أمامنا يتمثل في رفع كفأة استخدام المياه من خلال التقنيات الحديثة وضخ استثمارات كبيرة في قطاع الزراعة والمياه من أجل دعم البنى التحتية والبحث في حلول وتكنولوجيات مبتكرة للحد من استهلاك المياه وزيادة فعاليتها. ورفع شعار ( النفط من أجل المياه )، حيث تفقد قطرة النفط قيمتها إن لم تنتج قطرات ماء. واعتماد عام 2007م عام المياه في بلادنا وأساس لمرحلة قادمة تكثف فيها كل أنواع المبادرات العلمية والحلول العقلانية لحل أزمة المياه في بلادنا.

[email protected]



المراجع:-
1. سورة الأنبياء، الآية 30
2. أحمد الشربيني " متى تنفجر الفقاعة؟ لم نتجنب الكابوس ... لكننا أجلناه فقط "، مجلة العربي الكويتية ، يونيو 2006م،الكويت
3. أحمد عبد الله جحاف "أدلة في أخطاء الأرقام المعلنة عن المياه الجوفية لحوض صنعاء"، الوسط 22 فبراير2006م، صنعاء
4. إبراهيم المهدي "مقابلة مع صحيفة الثورة" 30 مايو 2006م، صنعاء
5. تقرير صحفي تحت عن عنوان "أزمة المياه تفاقم مستمر"، الوسط 15أبريل2006 م، صنعاء
6. عبد العزيز مهيوب محمد "خواطر مائية بمناسبة اليوم العالمي للمياه"، الأيام 22 مارس2006م،عدن
7. عبد الأمير دكروب " المياه والصراعات حولها في دول المشرق العربي "، مجلة الدفاع الوطني، 1/1/2003م، بيروت.
8. منذر خدام تنمية الموارد المائية في سورية وترشيد استعمالاتها"، الحوار المتمدن، العدد: 825، 5 مايو2004.دمشق


تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 02-ديسمبر-2024 الساعة: 01:45 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/31875.htm