في ذكرى رحيل حارس الفنار: محمود البريكان من هذا الزائر الغريب الذي يطرق باب محمود البريكان ليلة بعد ليلة؟ هذا الرجل المتوحد الاعزل تماماً. في قصيدة قصيرة له كتبها في عام 1984بعنوان «الطارق» يقول البريكان: على الباب نقر خفيف على الباب نقر بصوت خفيض ولكن شديد الوضوح يعاود ليلاً أراقبه. اتوقعه ليلة بعد ليلة أصيخ اليه بإيقاعه المتماثل يعلو قليلاً قليلاً ويخفت أفتح بابي وليس هناك أحد. من الطارق المتخفي؟ ترى؟ شبح عائد من ظلام المقابر؟ صيحة ماض مضى وحياة خلت أتت تطلب الثأر؟ روح على الأفق هائمة أرهقتها جريمتها أقبلت تنشد الصفح والمغفرة؟ رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة ومهراً لأجل الرحيل؟ هل كان محمود البريكان يحدس في هذه القصيدة، قاتله؟ تلك الدعوة الغامضة للرحيل؟ هل أستشعر محمود البريكان موته عبر هذه القصيدة بعنوانها اللافت هذا، قبل مقتله الفاجع؟ ٭ مهما كان الأمر، تصادف هذه الايام تقريباً الذكرى الرابعة لرحيله، 28 فبراير من عام 2002) مات الشاعر مقتولاً اذن! محمود البريكان اسم هو عراب الصمت والعزلة. هذا الشاعر الذي ابقى روحه الشعرية متأججة حتى النهاية الدراماتيكية لموته. لقد شكل امتناعه المتعمد والصارم عن نشر قصائده مفارقة حقيقية في خريطة الشعر العربي المعاصر وبقي انجازه الشعري في الظل، بعيداً عن الذاكرة الشعرية العربية، كأن البريكان كان يرغب ان يختفي عن ضجيج العالم نهائياً والى الابد. هو الذي لم يغادر البصرة إلا سنوات قليلة للتدريس في الكويت بين عامي 1953 و 1959. وطوال سنوات عديدة كنت احاول تتبع نصوصه القليلة الموزعة هنا وهناك، إلى ان انجز الشاعر عبدالرحمن طهمازي دراسة ومختارات عن البريكان صدرت عن دار الآداب في 1982. ظل اسم البريكان مرتبطاً في ذهني على الدوام بذلك الثالوث البصراوي، بدر شاكر السياب، محمود البريكان، وسعدي يوسف، وما زلت اتذكر اول لقاء لي مع سعدي حينما سألته من بين آخرين عن البريكان فراح يحدثني عنه بحبٍ وشغفٍ حقيقي وبعد سنوات من ذلك سوف يكتب سعدي يوسف عما تعلمه من البريكان. «تعلمت من محمود البريكان، وهذا ما تعلمته من بدر أيضاً.. الحرص على صفاء اللغة مع الانتباه إلى قدرتها على ان تتداول بين الناس.. أحياناً تبدو لغة البريكان صافية حد التجريد، أقول «تبدو» لأن النظرة التالية سوف تعلمنا كم هي ملموسة ومحسوسة لغته» اجل لقد قتل هذا الصامت الكبير في داره بمجانية مذهلة، هذا الشاعر الذي كان يطمح إلى استشراف المصائر الكبرى للإنسان وكان يحلم بأن يكون جوهر الشعر، فعلاً عظيماً من افعال الحرية ومغامرةً في مستوى النزوع الاعمق للأنسان. لكن ما يفرح حقاً انه ما من قصيدةٍ عظيمةٍ تصل متأخرةً ابداً، كما كتب الشاعر والصديق باسم المرعبي، الذي انجز واصدر الطبعة الاولى لأول كتاب شعري يحمل اسم محمود البريكان، بعنوان متاهة الفراشة، سبعون قصيدة، 1958- 1998، بعد ان جمع النصوص وبوبها وقدم لها واصدرها عن دار نيبور للنشر في استوكهولم. (صدرت المجموعة تحت العنوان نفسه في طبعة ثانية عن منشورات دار الجمل في المانيا مزّيدة ومنقحة). «يبدو لي ان الشعر فن لا يقبل التسخير» عبارة لم يقلها البريكان فحسب بل سرت في اعماقه وفي مجرى حياته ومواقفه، حتى النهاية. وفي حديث وحيدٍ ربما ونادر ايضاً اجراه معه الشاعر حسين عبداللطيف في عام 1969 ونشر في مجلة المثقف العربي، المح البريكان إلى طموحه ونزوعه المبكر إلى المغايرة وإلى استشفاف ماهو جوهري في الكتابة ومن ثم إلى نحت لغةٍ مبنيةٍ بأحكام فيها من الدقة والشفافية بحيث يطبق على عالم موضوعاته الشعرية بتماسك تام، لأن الشعر كما يقول: «لا يحيا مع الحذلقة وليس وسيلةً لتحقيق أي غرض مباشر ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجة ومن ثم فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي وقلما يعكس رغبات الشاعر اليومية، لأن منطقته هي منطقة الذات العميقة». لقد جرب البريكان مبكراً كتابة النصوص المطولة كما في قصيدته «أعماق المدينة»، في عام 1951، بالاضافة إلى القصائد القصيرة، فائقة الكثافة والايجاز كما في هذه القصيدة: ايها القنوط هناك، بعد منفذ: القفز إلى دوامات المحيط. وفي قصيدة أخرى انس ما تعرف وأبدأ كآدم يخطو على الارض التي اخصبتها البراكين. ولأن، البريكان كان يدرك ببصيرة الشاعر الحقيقي مصيره واسراره الخفية وتحولات العالم من حوله، كتب واحدة من أجمل قصائده بعنوان قصيدة ذات مركز متحول |