المؤتمر نت -
د. أبو بكر القربي -
فرحة عيد الاستقلال.. وحزن الحاضر
أذكر يوم إعلان استقلال جنوب اليمن في 30 نوفمبر 1967م وكنتُ حينها أقضي سنة تدريب في مستشفى في شيكاغو بعد تخرُّجي في كلية الطب من جامعة إدنبره في بريطانيا.. شعرتُ بفرحة واعتزاز دفعني إلى الذهاب في اليوم التالي إلى القنصلية البريطانية في المدينة لأسلّمها جواز السفر البريطاني لمستعمرة عدن حينها دون تفكير بتبعات ذلك عليَّ وعلى عودتنا من أمريكا إلى اليمن بعد انتهاء فترة التدريب، ولا في خسارة جواز بريطاني بكل مميزاته.

كانت الفرحة يومها نتيجة الفخر بانتصار الثورة واستعادة اليمن الجنوبي حريته، وهزيمة بريطانيا على أيدي الثوار اليمنيين الذين كانوا يرون في تحقيق الاستقلال إنجازاً تستعيد به اليمن سيادتها ومكانتها في العالم، ومن أجل بناء يمن جديد يتحقق فيه لليمن وشعبه الحرية والتنمية والعدالة، وينطلق لتحقيق أهداف الثورة التي من أهمها بناء دولة ديمقراطية وجيش وطني وتحقيق الوحدة اليمنية.

من المؤسف أن قادة الثورة بعد انتصارهم وتحقيقهم الاستقلال كان همّهم التخلص من خصومهم وتثبيت أنفسهم في السلطة بدلاً من تبنّي مشروع مصالحة وطنية يفتح باب الشراكة مع خصومهم لبناء الدولة الحديثة وإنجاز أهداف الثورة، مما قاد اليمن الجنوبي إلى موجات من الصراع خسرت فيها ثورة 14 أكتوبر بعضاً من خِيرة قادتها، وأسرَت نفسها في مشاريع إيديولوجية لا تنسجم مع واقع اليمن ولا مع تراث الشعب اليمني وتأريخه الذي بُنِيَ على مبادئ الشورى والتصالح، إضافةً إلى تبنّي ايديولوجيا عزلته عن محيطه الإقليمي وأفقدته شعبيته.

دون الدخول في سرد طويل لتطور الأحداث، بعد تحقيق الاستقلال جاءت أحداث 13 يناير 1986م، وبعدها انهيار المعسكر السوفييتي، لتفتحا باباً لتصحيح مسار الثورة اليمنية بإعلان قيام الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م، وبها تحقق هدف مشترك لأهداف ثورتي 26 سبتمبر و 14 أكتوبر بعث الأمل لدى اليمنيين ببداية عهد جديد ينهي صراع الأيديولوجيا ويصحح مسار الثورة اليمنية ويمكّن من بناء دولة ديمقراطية وتعددية سياسية ودستور يحمي الحريات وحقوق الإنسان، مما يتيح لليمن الموحد استعادة دوره في المنطقة سياسياً واقتصادياً، وإسهامه في حماية أمن المنطقة واستقراراها؛ إلا أن كل تلك الآمال تبددت نتيجة غزو العراق للكويت، ومحاولة الانفصال في اليمن التي كلفتها عشر سنوات من المقاطعة ووقف الدعم التنموي الذي فُرض على اليمن ولم يتوقف إلا بعد توقيع اليمن اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية.

استعادت اليمن بعد ترسيم الحدود الدعم الإقليمي والدولي، لتجد نفسها بعد تفجيرات مركز التجارة الدولي في نيويورك في مواجهة مع مخطط التغيير والإصلاح للشرق الأوسط الذي حملت أمريكا لواءه فأدى إلى الفوضى المدمرة التي نرى نتائجها اليوم في العديد من دول المنطقة وعلى اليمن، نتيجة توظيف حملة من المعارضة ومكونات مدنية لإسقاط النظام، متجاهلين أن باب تغيير النظام مفتوح أمامهم من خلال صندوق الاقتراع الذي كفله الدستور اليمني، مما اضطر الحكومة تجنّباً لخطر الانزلاق للعنف، إلى المبادرة الخليجية التي هيأت للحل السياسي التوافقي للخلاف والتي تم بناءً عليها النقل السلمي للسلطة دستورياً في فبراير 2012م، واعتُبر نموذجاً يُحتذى به في حل الصراع، لكن الاختلالات التي حدثت عند تنفيذها وفقاً لآلياتها من قِبَل الرئيس ورعاة الحل السياسي والمبعوث الأممي أدى إلى فشلها وانزلقت باليمن إلى الوضع المأساوي الذي تعيشه اليوم، وانهارت فيه الدولة ومؤسساتها، وفقد اليمنيون إرادتهم وقرارهم الذي أصبح اليوم بيد مموّلي أطراف الصراع اليمنية.

قد يستغرب البعض كيف أثيرُ هذه القضايا الخلافية ونحن نحتفل بعيد الاستقلال، بدلاً من إثارة مشاعر البهجة بالانتصار وتحرير الأرض من المستعمر.. صحيح أن علينا أن نمجّد ونعتز بالقادة الذين حرروا الوطن .. ولذلك علينا في ذكرى الاستقلال ألا نحصر حديثنا عن النصر فقط، وإنما نتذكر أسباب الفشل في تحقيق أهداف الثورة والانتقال باليمن وشعبه إلى وضع أفضل؛ وكيف نعالج ذلك الإخفاق.

لأن واقع اليمن اليوم في عيد استقلاله يثير الحزن مهما بررت أطراف الصراع لمواقفها وحمَّلت المسؤولية خصومها أو الوحدة؛ ويؤججون الصراع وهم يرون كيان اليمن مهدداً وشعبه في وضع من السوء لم يعرفه في أي عهد سابق لأن القيادات التي تحكمه أصبح همها السلطة والمصالح وتسليم أمرهم لغيرهم، متخلّين عن الدستور الذي فيه الحل للصراع إذا ما وضعوا مصلحة الوطن وحقوق المواطن هدفهم الحقيقي؛ أما إذا ما استمروا على ما هم عليه فإنهم سيفقدون الشرعية الدستورية والأخلاقية، لأن السلطة التي لا تحمي وطنها وتحترم كرامة مواطنيها وحقوقهم وحريتهم تصبح أداة للقهر لا يمكن لها البقاء وستنتهي كما انتهى من سبقها.

مع ذلك يفرض علينا عيد الاستقلال التهنئة لليمن وشعبه لإنجازه التأريخي.. وتحية لشهداء ثورة التحرير.. والدعاء إلى الله أن ينقذ اليمن من الدمار، وأن يمنحنا الرشد للتصالح وإنقاذ اليمن ووضع مصلحته قبل مصلحة الحزب والقبيلة والطائفة.
تمت طباعة الخبر في: السبت, 30-نوفمبر-2024 الساعة: 03:52 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/178153.htm