المؤتمر نت -

المؤتمرنت -
الأستاذ عبد الله فاضل فارع مترجماً
عـدن/(دراسة علمية كتبها):أ.د. مسعـود سـعيد عـمشوش: (مدير مركز عبد الله فاضل فارع للدراسات الإنجليزية والترجمة بجامعة عـدن).


(أولا) – ترجمات عبد الله فاضل فارع:
كان الأستاذ عبد الله فاضل فارع عاشقا للغات، وضليعا في اللغة العربية واللغة الإنجليزية. فهو قد نال شهادة الثانوية عام 1946، بعد أن خضع للامتحان الذي كانت جامعة كامبريدج تنظمه دورياً في المستعمرة البريطانية عدن. وقد أكد أن مستوى خريجي الثانوية في اللغتين الإنجليزية والعربية كان، في تلك الأيام، رفيعا. وهو ما مكنه من التفوق في دراسته في الجامعة الأمريكية بالقاهرة التي التحق بها سنة 1948. وفي العام الأخير من دراسته هناك حضّر رسالة حول (التفسيرات المتباينة لفلسفة عمر الخيام). وخلال إعداده لتلك الدراسة قرأ مختلف الترجمات العربية لرباعيات عمر الخيام، وقام بترجمة اثنتي عشر رباعية منها عن اللغة الإنجليزية، ونشرها في صحيفة (المستقبل) العدنية عام 1952، أي وهو في السادسة والعشرين من عمره.
وفي نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، قام الأستاذ عبد الله فاضل فارع بتدريس اللغة الإنجليزية بالمعهد الفني بالمعلا. ثم عيّن، في مطلع الستينيات، مدرسا للغة العربية في المدرسة الثانوية للبنين. وكان أيضا يستطيع القراءة باللغتين الفرنسية والأسبانية. وقد كتب، رحمه الله، في نهاية دراسته لمجموعة قصص هيمنجواي (رجال بلا نساء): "وبتعدد ما يحسن المرء من لغات يتسع أفقا، ويجني ذوقا متجددا، ويزداد قدرةً على فهم قيم الحياة والاعتزاز بها".ص81
وفي نهاية ستينيات القرن الماضي، وتحديدا في عام 1969، أصدرت (سلسلة مسرحيات عالمية) الكويتية ترجمة أنجزها عبد الله فاضل فارع لمسرحية (ندكيلي أو عسكر ولصوص)، للكاتب الاسترالي دجلس ستيوارت. وفي تونس نُشرِت له ترجمة لمسرحية أسترالية أخرى بعنوان (ما آن الأوان).
وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي، تفاعل الأستاذ عبد الله فاضل فارع، الذي كان يشغل منصب عميد كلية التربية العليا، ثم مدير عام التعليم العالي في وزارة التربية والتعليم، مثل كثير من المثقفين والأدباء العرب مع المد اليساري الذي برز في عدد من الأقطار العربية حينذاك، وشرع يترجم جملةً من الدراسات المتعلقة بالاتحاد السوفييتي، وذلك عن اللغة الإنجليزية وليس اللغة الروسية. وقد نشر تلك الترجمات في مجلة (الحكمة) التي يصدرها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين. ومن المعلوم أن الأستاذ عبد الله فاضل فارع كان أول رئيس للاتحاد. وفي عام 1973 كان أيضا سكرتير مجلة (الحكمة).
ففي العدد (22، 1974) من مجلة (الحكمة)، مثلا، نشر الأستاذ عبد الله فاضل ترجمة بعنوان (رسائل متبادلة بين ماركس وأنجلز)، تتناول آراء الرجلين حول العرب والعبرانيين. وفي العدد (26)، نشر ترجمة لدراسة للناقد السوفييتي الونيف أصلانوف عن (الشاعر الأذربيجاني النسيمي). وفي العدد (29)، نشر دراسة بعنوان (عظمة بوشكين: بين أدبه وتقييم النقاد)، ضمنها ترجمة لآراء عددٍ من الكتاب الروس –مثل دوستوفيسكي وجوجول-، والكتّاب السوفييت –مثل نشارسكي- حول الأديب الروسي بوشكين (1809-1852).
وخلال فترة عمله في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس، أشرف الأستاذ عبد الله فاضل على مكتب إدارة الترجمة الذي أصدر كتابا في جزئين عن (واقع الترجمة في الوطن العربي)، و (دليل المترجمين العرب). وكان حينئذ يقوم بترجمة ما يصدر عن المنظمة إلى اللغة الإنجليزية ردا على بعض الادعاءات المغرضة ضد الثقافة العربية. وبعد تقاعده من وزارة الخارجية وتعيينه مستشارا لرئيس جامعة عدن عام 1992، انتدب لتدريس مادة (نصوص باللغة الإنجليزية) في قسم اللغة العربية بكلية التربية عدن، ومساقي (تاريخ الترجمة) و(الترجمة التطبيقية) في مركز الدراسات الإنجليزية والترجمة بجامعة عدن.
وقد كان الأستاذ عبد الله فاضل -رحمه الله- أبا وزميلا عزيزا لنا في هيئة تحرير مجلة (التواصل)، التي تصدر عن نيابة الدراسات العليا والبحث العلمي – جامعة عدن، والتي تُعنَى بشئون الترجمة. وكان يصرّ على إعادة نشر بعض ترجماته بسبب الأخطاء الطباعية البسيطة التي تبرز فيها. وبعد أن نشرت له المجلة ترجمات لعدد من أشعار الهايكو اليابانية والقصص الأسترالية القصيرة، قررت هيئة التحرير، سنة 2005، نشر ترجمته لأهم مجموعة قصصية ألفها الكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي: (رجال بلا نساء). وعلى الرغم من أن هذه الترجمة تشكل كتاب التواصل رقم (2)، فهي لم تصدر إلا في عام 2007، بعد ظهور كتاب التواصل رقم (3): (أقاصيص يمنية مترجمة) في سنة 2006، وذلك لأن المترجم عبد الله فاضل لا يمل من التصويب والتصحيح والتنقيح. وكان - رحمه الله- يسعى إلى بلوغ نوعٍ صعب المنال من الأناقة والإتقان، كيلا نقول الكمال.) انظر نموذجا من التصويبات التي أدخلها على مخطوطة ترجمته لكتاب اليمن: رحلات المتيَّم المهووس في بلاد القاموس، الملحق رقم 1).
(ثانيا)-عبد الله فاضل و(رجال بلا نساء):
من المسلم به أن الترجمة أداة مهمة للتعارف بين الأمم، وتعزيز العلاقات الثقافية بينها. وقد أدرك كثيرٌ من المترجمين العرب مكانة قصص وروايات هيمنجواي، الذي منح جائزة نوبل في الأدب عام 1954، منذ منتصف القرن الماضي. وقد تميّز هيمنجواي، بأسلوبه السهل الممتنع؛ فهو من رواد الأسلوب الواقعيّ الذي حرّر الكتابة الأدبيّة الإنجليزيّة من التراكيب المعقّدة، والمفردات الصعبة والنادرة والحوشيّة والأنيقة، وانتقل بها إلى الألفاظ البسيطة والتعبيرات الواضحة.
ويتحدّث عبد الله فاضل عن افتتانه الشديد بقصص هيمنجواي منذ كان طالباً بالجامعة الأمريكية في القاهرة قائلا في خاتمة دراسته لقصص هيمنجواي: "بدأت قراءة ما كتب هيمنجواي من قصص قصيرة منذ أواخر الأربعينات، مع بدء التحاقي بالجامعة الأمريكية في القاهرة في أثناء دراسة مقرر: الحياة الأمريكية في أعمال أدبائها. قرأت حينئذ مجموعة رجال بلا نساء. وكم مرة ختمتها ثم أعدتها، وانطلقت من قراءتها المعادة إلى غيرها بقلم مؤلفها؛ ومنذ ذلك الحين راودتني ترجمتها ترجمة تقترب من روح الأسلوب المميز لها. وودت أن تتاح لقارئها أن يتذوقها تذوقه لها لو قرأها بلغتها المترجم عنها، فيغرى بها مترجمة ليقرأها أصلا رجاءً إلى أن تكون سبيلا إلى الاستفادة بتحصيل لغة جديدة ينطلق بها إلى قراءة أدب هيمنجواي: وكل لسان في الحقيقة إنسان".ص81
وقد كان الأستاذ عبد الله فاضل يدرك تماما أن الترجمة لا تتطلَّب إتقان اللغتين: المنقول منها وإليها، فحسب، وإنما تتطلَّب كذلك الكفاية الأدبية والثقافية التي تتمثل في قدرة المترجِم على معرفة الأساليب الأدبية التي كتب بها النصّ الأصل، ومقدرته على مضاهاتها في اللغة الهدف. وكذلك إلمام المترجِم بالسياق الاجتماعي والثقافي للنصّ الأصل والسياق التاريخي لكتابته. لهذا فهو - في الحقيقة- لم يكتف في كتاب التواصل (2) بتقديم ترجمة لمجموعة (رجال بلا نساء). فالصفحات التسعون الأولى من الكتاب- الذي يقع في 315 صفحة من الحجم المتوسط، تحتوي ترجمة قصيرة لسيرة إرنست هيمنجواي، ودراسة نقدية طويلة (تقع في 55 صفحة) لقصص المجموعة ألفها الأستاذ عبد الله فاضل نفسه. ويقول بتواضع في مطلع هذه الدراسة: «تقتصر هذه المقدمة على مجرد استعراض للقصص التي يحويها جلدا هذا الكتاب. هي محاولة للإلماع إلى إيضاح تلك الظروف التي واكبت كل قصة؛ كبداية نشرها تاريخا ومظنة. وشرح بعض ما فيها من تعابير قد يبدو فيه غموض من حيث المصطلح المستعمل حين نشرها، ثم مقدار أهميتها بالنسبة لعلاقتها في مجموعتها هذه أو ببعض أعمال هيمنجواي الأخرى. وما قد يكون نشأ عنها من عمل فني آخر في السينما أو التلفزيون".ص39
ولا شك أن رغبة عبد الله فاضل في البحث عن طريقة للمزاوجة بين الأمانة لمحتوى النص الأصل، وبين الرغبة في إعادة إنتاج أسلوب هيمنجواي وخصوصيته، في لغة عربية صافية وسلسة، قد شكلت تحديا آخر جعله يؤجِّل نشر ترجمة هذه المجموعة القصصية لفترة طويلة.
وفي اعتقادي، تتميز ترجمة عبد الله فاضل فارع لقصص هيمنجواي القصيرة، (وكذلك في ترجماته الأخرى)، بهاجس الأمانة والدقة، وتوظيف لغة عربية فصيحة ورفيعة، بما في ذلك الكلمات الجزلة، التي لن يستوعبها –اليوم- بعض القراء العرب غير المتخصصين في اللغة العربية.
مثلا، ترجم عبد الله فاضل الفقرة الآتية (من قصة: تحقيق بسيط)
"The sunlight came in through the window, and shone on a map on the pin-board wall of the hut. The sun was high and the light came over the top of the snow".
على النحو الآتي: "وكان نور الشمس يتسرب من خلال النافذة، ويشع على خارطة مثبتة على جدار الكوخ المنشأ من ألواح الصنوبر. كانت الشمس على سمت عال من السماء، وكان النور ينفذ من فوق مستوى ارتفاع الثلج". ص 237
بينما ترجمها الفلسطيني سمير عزت نصار عام 1992، على النحو الآتي:
"تسللت أشعة الشمس خلال النافذة، وتألق نورها على خريطة معلقة على جدار الكوخ المصنوع من خشب الصنوبر. كانت الشمس عالية وهبط النور على قمة الثلج". 139
وفي القصة القصيرة نفسها ترجم الأستاذ عبد الله فاضل الجملة الآتية:
Outside, the snow was higher than the windows.""
على النحو الآتي: "بلغ الثلج في الخارج ما يربو على مصاف النافذة"، بينما ترجمها سمير عزت نصار قائلا: "في الخارج كان الثلج أعلى من النافذة".
ويبرز حرص الأستاذ عبد الله فاضل فارع على استخدام لغة دقيقة ورفيعة، حتى في ترجمته للحوار. هذا ما نلمسه مثلا في هذه السطور الأولى من ترجمة قصة (الذي لم يغلب): "صعد مانويل غارسيا الدرجات المؤدية إلى مكتب دون ميغل ريتانا. حط حقيبة ملابسه وقرع الباب. ولم يكن من مجيب. وفي أثناء ما كان مانويل واقفا في الدهليز أنتابه إحساس أن الغرفة كانت مأهولة. نفذ إليه ذلك الإحساس من خلال الباب. فصاح مناديا: يا ريتانا! ثم أصاخ السمع. ولم يكن من مجيب.
فقال مانويل في نفسه: حسنا أنه في الداخل على أية حال.
وصاح مناديا: يا ريتانا! وأخذ يخبط الباب.
فرد مجيب من داخل المكتب يقول: من الطارق؟
فرد مانويل: إنه أنا مانويل.
فتساءل الصوت: ماذا تريد؟
وأجاب مانويل: أريد أن أزاول عملا..."ص95
وهذا النص الأصل:
Maria Garcia climbed the stairs to Don Miguel Retana's office. He set down his suitcase and knocked the door. There was no answer. Manuel, standing in the hallway, felt there was someone in the room. He felt it throw the door.
-Retana, he said, listening.
There was no answer.
He's there, all right, Manuel, thought.
-Retana, he said and banged the door.
-Who's there? Said someone in the office.
-Me, Manolo, Manuel said.
-What do you want? Asked the voice.
-I want to work, Manuel said. P.6
وقد ترجم سمير عزت نصار تلك الفقرات عل النحو الآتي:
(ارتقى مانويل جارسيا الدرج إلى مكتب دون ميجويل ريتانا. وضع حقيبته على الأرض وطرق الباب. لم يصدر أي جواب. أحس مانويل، وهو يقف في الممر، بأن في الغرفة شخصا ما. أحس بهذا من خلال الباب.
قال، مصغيا: "ريتانا". لم يصدر أي جواب.
فكر مانويلا: إنه هناك، بلا شك.
قال: "ريتانا"، وخبط الباب.
قال شخص في المكتب: "من هناك؟"
قال مانويل: "أنا مانويل".
سأل الصوت: "ماذا تريد؟"
قال مانويل: "أريد عملا".
ولتسليط مزيد من الضوء على ترجمة عبد الله فاضل فارع لمجموعة هيمنجواي شجعنا إحدى الطالبات المقيدات في برنامج الماجستير في مركز عبد الله فاضل فارع للدراسات الإنجليزية والترجمة على تكريس رسالة الماجستير لدراسة (ترجمة الإضمار في مجموعة ارنست هيمنجواي (رجال بلا نساء): دراسة مقارنة بين ترجمة سمير عزت نصار وترجمة عبد الله فاضل فارع).
وبعد، نتمنى أن تحظى ترجمة الأستاذ عبد الله فاضل لمجموعة (رجال بلا نساء) باهتمام طلبته وزملائه المدرسين. فهي أنموذج نادر للترجمات التي تجمع بين جزالة اللغة التي تشترطها دور بعض الطباعة لنشر النصوص المترجمة، وبين الأمانة والدقة العلمية التي لا نهتم بها عادة إلا في الترجمات العلمية أو "المدرسية".
(ثالثا)-عرض لترجمة عبد الله فاضل فارع لكتاب ماكنتوش سميث (اليمن: رحلات المتيّم المهووس في بلاد القاموس)
(استلت جميع الاقتباسات الواردة في هذا العرض من مخطوطة الترجمة التي أنجزها الأستاذ عبد الله فاضل فارع لكتاب ماكنتوش سميث (اليمن؛ رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس). ونرجو التركيز على أسلوب تلك الاقتباسات والإجابة على السؤال الآتي: هل يمكن أن تتبنّى جامعة عدن نشر هذه الترجمة؟)
يُعد تيم ماكنتوش سميث (Tim Mackintosh-Smith)، اليوم، أحد أشهر الكتاب البريطانيين المعاصرين، وأكثرهم ارتباطا بأدب الرحلات والسفر، وبشخصية الرحالة العربي المسلم: شمس الدين الطنجي المشهور بابن بطوطة. وخلال مسيرته الأدبية والبحثية، وتجواله في العالم، ألّف ماكنتوش سميث عددا من الكتب التي تتبع فيها خطى ابن بطوطة، وتعد من بين أفضل ما كتب في أدب الرحلات. وقد أخرجت قناة الـ (BBC) البريطانية سلسلة من الأفلام الوثائقية مستوحاة من مؤلفاته: (أسفار مع ابن طنجة) عام 2001، و(قاعة الألف عمود) عام 2005، و(الوصول إلى اليابسة) عام 2010.
ومنذ أربع سنوات، يقضي ماكنتوش سميث معظم وقته محاضرا حول أدب الرحلات العربية في جامعة هارفارد، والجمعية الجغرافية الملكية بلندن، ومدن أخرى كثيرة. وقد فاز كتابه الثالث من ثلاثية ابن بطوطة، بجائزة (أولدي) لأفضل كتاب رحلات 2010. وفي العام نفسه منحه المركز العربي للأدب الجغرافي جائزة ابن بطوطة الفخرية، وأدرجت مجلة نيوزويك اسمه ضمن أفضل اثني عشر كاتب رحلات في القرن العشرين.
وقد تخصص ماكنتوش سميث في اللغة العربية في جامعة أكسفورد. وعندما سمع –عام 1981- بأن اليمن هي البلاد الذي يتحدث الناس فيها لغة عربية نقية وصافية، قرر أن يقضي فترة دراسته التطبيقية فيها. وقد تحدث عن ذلك في مقدمة كتابه الأول (اليمن؛ رحلة المتيّم المهووس في بلاد القاموس Yemen: Travels in Dictionary Land)، على النحو الآتي:
"استدار أستاذِي المشرف عن شاشة كمبيوترِه مُحتجًّا. "اليمن؟ لماذا تريد الذهاب إلى هناك؟" ويبدو أن اقتراحي سّبب للأستاذ صدمة لم تكن متوقعة. فمن عادته ألا تنتزعه من مدونته عن الشعر الأندلسىّ الغَراميّ إلا كارثة جبارة حقيقية؛ كَخَطأ في حركة إعراب آخر كلمة، أو تَهَجَّى أداة التعريف خطأً.
" قا ... قابلتُ يمنياً قال لي إن عربية اليمن هي أقرب لهجٍة إلى العربية الفصُحَى ".
ابتسم ابتسامة طويلة فيها ألم وخيبة أمل، كفغرِة فمِ دميةِ الأرَاجوز وهي تصدر أصواتا من جوفها: "كلهم يقولون الكلام نفسه عن لهجاتهم، أيها الصبي الغَبِي. اليمن! امتعض فمه حول الكلمة كأنها كانت فاكهة مقيتة مُرَّة. ليمونة فِجَّة، وأضاف: "لِمَ لاَ تقصد مكانا "محترماً" آخر ... القاهرة، أو عَمَّان، أو تونس؟ [...]
وفي خاتمة المَطاف لانت عريكة أستاذي المشرف – حتى أنه حبانى بفيض من بَرَكات رضاه – هذا مع أنّه حذّرني من مغبة الغياب المتطاول. وهكذا عزمت على شدّ الرّحال لاكتشاف بلد القاموس على صعيد الواقع، ولربما كان من قصدي، نتيجة لذلك، أن أفهم الشعب الذي يقطن البلد. ومنذئذ، وأنا حِلُّ بهذا البلد، وعلى عهده القديم مقيم".
وقد قرر ماكنتوش، حقا، أن يجعل من صنعاء مقاما لسكنه منذ أن وطأتها قدماه عام 1981. وفي البداية، عمل أيضا مدرسا للغة الإنجليزية في المجلس الثقافي البريطاني بالمدينة. وطلبت منه إدارة المجلس أن يرافق الروائية الأيرلندية إدنا أوبراين حينما زارت صنعاء عام 1991. وقد سألته الروائية الأيرلندية خلال هذه الزيارة: "كيف يمكن أن تعيش في مكان مثل هذا، ولا تكتب عنه؟ إنها جريمة"! لذلك شرع ماكنتوش في الكتابة عن اليمن. وفي عام 1997، نشر أول كتبه: (اليمن: رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس Yemen: Travels in Dictionary Land).
وفي عام 2000، اتفق مركز عبد الله فاضل فارع للدراسات الإنجليزية والترجمة (الذي كان يسمى حينذاك مركز الدراسات البريطانية والأمريكية) مع المجلس الثقافي البريطاني بصنعاء على ترجمة ماكنتوش سميث عن اليمن. وكلف الأستاذ عبد الله فاضل فارع بالقيام بالترجمة. وقد أنجز الترجمة فعلا بعد نحو ثلاث سنوت، وسلّم نسخة من مخطوطة الترجمة للمركز الذي تولى مهمة طباعتها بالآلة الطابعة، وسُلِّم نص الترجمة مطبوعا للمجلس الثقافي البريطاني، الذي –وفق الاتفاقية المبرمة- يمتلك حقوق النشر. وحتى اليوم لم تصدر الترجمة المطبوعة في كتاب.
ومن خلال قراءتنا لمخطوطة الترجمة التي سُلِّمت للمركز، نلمس أن الأستاذ عبد الله فاضل فارع قد ظل يراجع ويصوب الترجمة، حتى بعد أن قام بتبييضها بخطه الأنيق. (انظر الملحق رقم1) ونلمس أيضا حرصه على تشكيل الكلمات، والابتعاد عن الأخطاء الشائعة. فهو، مثلا، يصرُّ على وضع حرف الجر أمام (خلال) و(أثناء).
ولا شك أن ثقافته الواسعة، ومعرفته بمختلف جوانب الحياة في اليمن، قد مكنتاه من العثور على الكلمات العربية المناسبة، وكذلك أسماء العلم والمسميات اليمنية (مثل حرضة وسلتة والشانني)، التي لن يستطيع مترجم غير يمني كتابتها بشكل سليم.
ومن الطريف أيضا أن يجاري الأستاذ عبد الله فاضل فارع المؤلف ماكنتوش سميث في كتابة أسماء العلم وفق نطقها (الصنعاني). ففي صفحة (15) من النص الأصل، مثلا، يكتب المؤلف (Ya Ali! Ya Alayyy!)، ويكتب المترجم: (يا عَلِي! يا علاي ي ي!).
وبشكل عام، تبيّن لنا أن الأستاذ عبد الله فاضل فارع قد وظَّف في ترجمته لكتاب ماكنتوش سميث المعايير نفسها، (الأمانة والدقة، وفصاحة اللغة، واستخدام الكلمات الجزلة)، التي التزم بها ترجمة مجموعة (رجال بلا نساء) لهيمنجواي.
ويتضمن كتاب (اليمن؛ رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس Yemen: Travels in Dictionary Land) عرضا شاملا للحياة المعاصرة في اليمن من خلال عيون بريطاني قرر أن يجعل من صنعاء مقاما له. وفي ثنايا ذلك العرض نعثر على معظم ما قاله الرحالة الغربيون عن مناطق اليمن المختلفة، بما في ذلك الأساطير والأحكام المسبقة. وقد أضاف إليها ماكنتوش سميث كثيرا من المقولات التي لم أقرأها في كتب الرحالة الغربيين الآخرين عن اليمن. فهو، حينما يتناول تعددية الأعراق في عدن (أو كوسموبوليتها)، مثلا، يكتب:
"عَدَنَ حظيت بكثير آخرين من السكان النَّابين عن المألوف، والزوار الطارئين: منهم الصوفي الفائق العيدروس من القرن الخامس عشر، الذى نَجَّى سفينة اوشكت على الغرق بأن دخل فى غيبوبة، وألقى بمسواكه نحو قمة جبل، فطار منها المِسواك وسد الخلل في هيكل السفينة؛ ثم أمير البحر العثماني – سليمان الطَّواشِي- الحيوان أَكثر منه إنساناً، الذى دعا حاكم عدن ليتفقد سفينة قيادته، ثم شنقه إلى طرف عارض شراعها؛ وهينز، الإنجليزي الذى سلطن نفسه، وفى 1839، وضع حجر الأَساس لثراء عدن التجاري الحديث، ومات متأثراً بإيداعه في سجن الدَّيْن في مُمْبَاي؛ والكومودور ماكلوري،"البدوي الطائر" المسترخي في شرفته المسقوفة، في فمه سيجار، وبيده مروحة صينية عريضة؛ وأناس مثل هْيُوسْكُتْ، متخذاً طريقه ليجمع 27.000 نموذج من الحشرات في يمن المرتفعات، والـذى كان رأيه حَسَناً بعدن "مكاناً يسترعى الاهتمام ويستولى على محبة قلوب البشر"، وآخرون مثل فيتا ساكفيل-وست التي اعتبرت عدن جحيماً جافة مِلْحَةً، وبكل اقتضاب أكثر زوايا العالم تنفيراً للنفوس البشرية؛ و رامبو الذى استرسل مع ملله مقيما في طابق فوق مستودع تجارى في كريتر؛ وكل شذاذ الآفاق الطارئين كالطيور القَواطِع مثل المد والجزر حول موانئ العالم الكبرى– تجار من مصر البطلسية ومن جزيرة كَتْش، ومن كانتون وكوروماندل، أحابيش وفَارْسِيِّين، وهندوك من حارقي موتاهم، وبارسيين يتركون موتاهم لجوارح الطير على "بروج الصمت"، ويعتمرون قبعات مثل أغطية سطول الفحم، تجار من روايات كونراد، ومغامرون خارجون من كتب بوكان؛ وكل وسائل الاتجار– أدلة سفن وموظفو موانئ، جباة ضرائب يهود، خزنة أموال رسوليين يحصون محتويات صناديـق النقود المتجهة الى تَعِزَّ، وعمال شحن وتفريغ صومال، الذين يصففون شعرهم مثل خيوط شعر كلاب المنازل الروسية، ويمرغونها بالطين الاحمر الياجوري، ويمنيون من الجبال قاصدين العيش والإقامة في كارديف، وَويلزيُّون مجندون من الأودية واصلون لكي يموتوا من ضربات الحر في عدن؛ بحارة سمر البشرات من دار السلام، وجنود انفار يشوه وجوههم حب الشباب من رُسْتُوف على نهر الدون، والرئيس سالم ربيع علي تَثْبُتُ إدانته بأخطاء في سنة 1979 تتقزز منها النفس، ويُعدَمُ رمياً بالرصاص. وأكثر غرابة من كل من سبق، أولئك الزائران الآخران من أقاصي بلاد الشمال اللذان أقبلا يدوسان ذيل فستان بريتانيا الملوث، محوطين بحشد من قوميسارات الاتحاد السوفيتي من الأبراتشيكيين والمنظرين ومدربي رقص الباليه – ماركس ولينين. فإذا كانت عدن قد استقبلت كل من هب ودب ممن سبق ذكرهم ذاهبين آيِبين فما الذي كان ليمنعها عن استضافة جنى من الجحيم أو حَوارِىّ من صحابة المسيح؟"
ومن الواضح كذلك أننا نلمح فيما كتبه ماكنتوش عن دور الحضارم في نشر الإسلام في جنوب شرق آسيا أثر الخطاب الاستعماري الغربي؛ فهو يصف ذلك الدور في الفصل السابع المكرس لحضرموت، قائلا:
"وبعد قضاء بعض ساعات هدراً بلا طائل نشطت وفتحت القسم الخاص بحضرموت من كتاب تاريخ المستبصر لابن المجاور الذي حملته معي بعد شرائه. ولربما كان فتحي له إذ ذاك في غير محلِّه، حيث يقول: "وليس في عالم الكون والفساد أخشن ناساً من أهلها (حضرموت)، ولا أكثر من شرهم وأقل من خيرهم، كثيرين الذم لبعضهم بعضاً، قليلين الذمة على من يستجير بهم، كثير الدم من المقتولين… ولهذا سمى إقليم حضرموت الوادي المفتون. ومما يزيد الغرابة تمادياً، أن أناساً كالحضارم استعمروا الأرض من "السواحل" في شرق أفريقيا إلى الفيليبين في المحيط الهادئ، لم يبدوا أنهم معتادون على ركوب السيارة".
ومثل الكتاب الغربيين الآخرين الذين كتبوا عن اليمن، ضمن ماكنتوتش سميث كتابه عن اليمن – الذي صدرت له عام 2007 طبعة أمريكية بعنوان: (اليمن ذلك المجهول Unknown Yemen)- عناصر غرائبية، تهدف في المقام الأول إلى جذب القارئ الغربي، وشد انتباهه. ففي نهاية الفصل السابع، يكتب:
"لقد اضطررت أن أسـكت عن مَوَاد كثيرة كنت أبغي تضمينها عن ســواحل اليمن (تروى الكثيرة منها بطريقة عجـلى مقتضبة) كما يقـول نيبور عن الحكــايات العربية (مع ما فيها مما يثير العجب) مثل: قصة أحد سلاطين المكلا المُحْدَثِين الذي اعتاد أن يلقى القبض على الشابات المستخدمات في قصره في أثناء ما كن يتسللن عَشْراً عَشْراً من خلال قناة ماء جارية من القصر. ومثل جار له من "بالحاف" كان يلقى بأعدائه إلى البحر بعد أن يودعهم في سحارات الشاي المثقبة، وكلما كانت كراهيته للخصم المُغرَق أشد كانت ثقوب الصندوق أضيق؛ ومثل إحدى القبائل التي أُمُّها عروسة بحر؛ وأخرى تصطاد الغزال بالركض وراءه وامساكه من ساقيه الخلفيتين، وتلعب والجمال "نطة الضفدع"، وعن قريتين كان سكانهما ذات يوم من عام 1196م يزاولون أعمالهم الاعتيادية اليومية سَمَتَا إلى أجواز الفضاء صعداً ولم ير لهما أحد أثراً بعد؛ وعن مجاذيب صوفيين يطعنون نفوسهم ويتدلون بأعناقهم من أعمدة مدهونة بالسمن؛ وعرائس يضفرن شعر عاناتهن لينتفها عرسانهن في ليالي دخلاتهن؛ وعن امرأة قضت كل عمرها منكوسة على رأسها، ولم تُشْفَ من شقلبتها إلاّ بعد أن أمطرت عليها السماء شُهُباً؛ وغير تلك من الحكايات... لكنني، من بعد كل ما رويت، أدركني الصَّباحُ، ولَسْتُ شِهْرَزاد".
وفي عام 2007، قال ماكنتوش سميث عن سر حبه لصنعاء واختيارها مقاما لسكناه وعيشه، "لا تزال صنعاء جميلة، وهي من أهم المدن التاريخية العربية، ولأن أبي كان من محبي كتب الرحلات، ويملك مجموعة من الكتب من بينها كتب مصورة، كانت نفسي، تسول لي أن اطلع على كتبه وعلى صور اليمن خاصة، لي في اليمن ما يقارب الستة والعشرين عاماً، وليست لدي أي رغبة في أن أغادرها. وإذا كان وطني هو العالم كله، فإن صنعاء هي مدينتي.
وخلال إقامته الطويلة في صنعاء اكتسب ماكنتوش سميث لهجة سكانها وكثيرا من عاداتهم، وأولها مضغ القات. وقد ضمّن الفصل السابع من كتابه، رأي أحد الحضارم فيه، وذلك على النحو الآتي:
"قبل ثلاث ساعات من أول مقيل لتخزين القات في "مبرز" حضرمي كنت قد بدأت أظن أن الحضارم ميالون إلى الكآبة والإملال. لم يبدأ المقيل بتجاذب الممازحة البريئة اللعوب التي تطبع فترة ما قبل "التخزين" في صنعاء، فسالم - داعينا إلى المقيل عنده- تربي في "كِينْيَا"، وصار تاجراً في "سيؤن"، لزم الحديث بنبرة عربية فصيحة رائعة، وكان موضوع حديثه الغالب حول تخصيب النخيل؛ أما ابنه وكان في أواخر عشرياته فقد جلس في وسط الغرفة تبدو عليه سيماء التضايق، وما كان ليتحَدَّث إلا إذا حدَّثه أحد.
ولما آنت ما تسمي بالساعة السليمانية، وأخذت أحس بتوفر القلق وأخذ دبيب حمي يَنْتَابُنِي... حتى توحيد الشطرين كان مضغ القات محظوراً في حضرموت، ولم يكن الحضارم قد انغمسوا في إيقاعه. أخذ مُخَزِّنَان متجاوران يتجاذبان حديثاً في السياسة. ولم يَخُض سالم فيما كانا يتحاوران فيه، بل أخذ من لحظة إلى أخرى يلتفت إلى ساعة معصمه. وخيل لي أننا قد تجاوزنا حد مدة الاستضافة وأثقلنا المقام وإذا بسالم يهب واثباً فجأة منصرفاً عن المكان. حينئذ كان صوت الأذان يتردد لصلاة المغرب، وترك الآخرون المكان أيضاً، وعاد سالم إلى الغرفة فارغ الفَم (من تخزينه القات)، وشرع في الصلاة. ولما انتهي رشق نحوي ببعض القات، وشرع "بالتخَّزين" مرة أخرى. وبعد لحظة تَرَوٍّ قلت: "لماذا لا تواصلُ مضغ القات ثُمَّ تُصليّ فرضى المغرب والعشاء جمعاً؟" وسرعان، ما نَدمْتُ على طرح السؤال. "وعلى فكرة، ذلك ما يفعله النَّاس في صنعاء"... قال، أنا في غاية البَيِّنة على الظاهرة. النَّاس في صنعاء ذوو سمعَة مشتهرة بتراخيهم في أداء فروضهم. وأضاف جاهِراً:
"خير أوقات الصلاة إذا أُذِّنَ لها".
إذا ترك المرء ما هو أقلّ من اللهّوِ من الامور يتدخّلُ فيما هو فرض عليه مسلماً، فإن ذلك، صراحةً مِمَّا لا يصِحُّ له عُذرٌ. لقد سَمِعتُ حتى ما يقال إن من الناس من يُصلَّون بدون أن يُخْرِجوا القات من أفواههم بِحُجَّة أنّه لا يؤثر بالضرورة على النُّطق السَّليم بترتيل آي الذّكر الحكيم. وهذا في نظري..."
لقد انفتحت علبة الدُّود... وشعرتُ أنّ من واجبي أن أوقف تيار الجدال لأتَمَلّص من الحرج. "لرُبَّما كان خيراً لو لم أذكر ما قلت: وبعد كُل، فأنا لستُ حَتَّى مسلم".
قال سالم، "حقاً، أنت لست مسلماً. لكنَّك صنعاني كامل الصِّفات. بدت نواجذه ابتساماً. وضحِكتُ ارتياحاً. لقد تكسَّر البرَدَ أخيراً وسال ثَغَباً. وفي أثناء الحديث التّلقائيّ، تخفَّفت لغة سالم من وعثاء التّصنُّع، والتشكيل الإعرابيّ".
أما الأكل وعادات الطعام في صنعاء –"جنة الله في الأرض"-، فقد وصفها ماكنتوش سميث بإسهاب في الفصل الأول من الكتاب، الذي أسماه (قاب قوسين أو أدنى من جنة السماء). وفيما يأتي الفقرات التي يقدم فيها (مطعم علي)، الذي يناول فيه وجبة غدائه:
"لصنعاء مطبخاً أهلياً يميزها عما حولها من البلاد براعة واتقاناً. ولقد غدت وجبة غدائي هي نفســها دائماً حسب ما أوصى به ابن المجاور في القرن الثالث عشر الميلادي: خبز البُرّ، والحلبة... - مسحوق الشعير الرومي (اليوناني)، يخفق بالماء خفقاً شديداً حتى يصير رغوة متجانســـة، ومعهما اللحم، في (مطعم علِىّ) حيث تراه واقفاً بلحمه ودمه تُجلِّلُه غمامة من الدخان على مصطبة ترتفع فوق قاع المطعم، وهو يغترف المرق البقري مخلوطاً بالبيض، والأرز ومسحوق الفلفل الأخضر إلى صف من الحرض... وهي مواعين منحوتة من الحجر، وتصطف أمامه قدور "كالجوابي"، يتسع كل واحد منها لكي يُسْمَط فيه أحد المبشرين (القسس) الذين كان الناس في عدن يسمونهم "المُغَوِّين". ويباشر العمل تحت إمرة عَلِىّ فريق من التابعين الخلَّص يتفقدون اسطوانات الغاز التي تطل شواظ لهبها تزفر كالجحيم. وفي هذا الجو اللاهب الصاخب يستحيل أن يدور نقاش أو حديث؛ وليس بمستغرب أو مجهول، أحياناً، حصول انفجار ماحق في هذا الأتون المشحون. أما حرضة السَّلتَة، كما يسمى خليط محتواها، فتحضر إليك جمرة نار متقدة، محمولة بملقاط، ويرغى على سطحها وهج متماوج أخضر مصفر من الحلبة، ثم يؤْتَى إليك بكتل من اللحم شعلاً في إناء شبيه "بالمقلاة الصينية" وعَلَى ارتفاع عشرة أقدام فوق رؤوس الموجودين سقف أسود فاحم من جراء ما خرت نحوه وإليه من طلقات النار شواظٌ شديدة وشُهُبٌ من مواقد الطباخة. ويقعد بعض الروّاد القرفصاء على قاع المطعم، ومنهم من يجلسون على مقاعد أمام موائد منصوبة (وهم يلبسون البذلات ويعقدون ربطات العنق ويفدون من وزارة الخارجية الواقعة عبر الطريق من باب المطعم) والناس الذين لما تباشر خدمتهم ينادون مولولين، يزعقون متذمرين لكي يسترعوا الانتباه: "يا عَلِي! يا علاي ي ي!"، ويستمر عَلِى واقفاً منتصب القامة لا يُعيرُ منادياً أذناً صاغية ولا يبدي جسمه حراكاً ضمن قطع مكافِئُ... من الأذرعة- كلها ملكه ورعيته وكأنه صنم هندي مهيب. أما من قد نالوا الرضا وبوشرت خدمتهم، فيتناولون غداءَهم والسلَّتة تبقبق في وجوههم نافثة فقاعاتها، والعرق يتصبب من أجبنتهم، وتأخذ جدران المطعم تبدو وكأنها صورة ضوئية ضخمة لجَنَائِن "قصر فرساي"-برياض زهورها المفضلة، وتماثيل حورياتها العذارى فاتنات المروج، وفسقيات روحنة الهواء وتطريته.
إن الغَدَاء في مطعم عَلِى ليس أمراً متعلقاً بِسَدِّ حاجة البطن أكلاً فحسب. إنه الخطوة الأولى على الطريق إلى "الكيف". وقد تناول السير رتشارد بئرتَن معنى "الكيف" فيما كتبه عنه قائلاً إنه يمكن أن يسمى، تذوق الوجود الحيواني.. كنتيجة طَبَعِيَّة منتشية، مرهفة، مُتَوَفِّزة، ورهافة أعصاب في أرقى مراحل إدراكها؛ إنها تُجيز ابتهاجاً شهياً ليس في جِبِلَّة الإِنسان المقيم في أقاليم العالم الشمالية إدراك له. لكن مترجم الليالي العربية (ألف ليلة وليلة) يُسَلِّم بهزيمته أخيراً فيستطرد قائلاً: "الكيف كلمة لا تترجم إلى لغتنا الإنجليزية". أما المعجميون، الذين لا يخضعون للأمر الواقع بما يكفي، فقد وصفوا "الكيف" "بأنه مزاج تأطُّرٌ ذِهْنِيٌ". ولكوني ماضغاً مواظباً لورقة شجرة القات، سأحاول أن أدلي بدلوي في تعريف "الكيف"، والحقيقة، أن مطعم عّلِي يرتبط ارتباطاً وطيد الصلة بالأخلاط الأربعة. فالدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء، لابد لها من أن يتلازم توازنها لكي يتوافر للإنسان اكتمال الصحة السليمة، أي ليتمكن ماضغ " القات " من بلوغ هدفه قصداً إلى " الكيف " من حيث أن القات يثير صفراء المرارة السوداء الباردة والجافة، ولأن هذين الخلطين ناري ومائي، فلابد من انعاشهما. ولذلك استُوجِبَت الحرارة والعرق و"السلتة" الفوّارة. ولذلك أيضاً لزوم زيارة الحمامات العامة قبل مضغ القات، والإصرار على أن تبقى النوافذ والأبواب مغلقة في أثناء التخزين (أي مضغ القات) واتخاذ الحيطة الشديدة لتجنب "الشانني" المَرهوب-وهو تيار هواء قارس ثاقب النفاذ إلى البدن، "ويكمن الموت في أثناء مسراه".
وختاما، يجدر بنا أن نشير إلى أن الأستاذ عبد الله فاضل فارع قد قام بترجمة كتاب ماكنتوش سميث كاملا، بما في ذلك النصوص الخاصة بدار النشر، لكنه - ربما لظروف صحية- لم يكتب المقدمة التي طلبها منه المؤلف ماكنتوش سميث. وقد ذكر الأستاذ عبد الله فاضل في سيرته التي ألحقها بترجمة (رجال بلا نساء، ص315)، إن نادي أصدقاء اللغة الإنجليزية في صنعاء قد احتفل بإنجازه لترجمة كتاب (اليمن؛ رحلة المتيم المهووس في بلاد القاموس).
تمت طباعة الخبر في: السبت, 30-نوفمبر-2024 الساعة: 04:43 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/116255.htm